الغضب قال:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، حتى كأنه قال: غير الذين غضب عليهم، فجاء اللفظ منحرفا به عن ذكر الغاضب، ولم يقل غير الذين غضبت عليهم كما قال:
{الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأسند النعمة إليه لفظا، وزوى عنه لفظ الغضب تحسنا ولطفا.
فانظر إلى هذه اللغة الكريمة وشرفها، وتلاقى هذه الأغراض اللطيفة وتعطفها، الأقدام تكاد تطؤها، والأفهام مع ثقوبها صافحة عنها، ويا ليت شعرى هل تكون سورة أكثر استعمالا من سورة الحمد، وهذا جزء من أجزاء ما فيها ولم توضع عليه يد؟ شرح الله لإعظام أوامره صدورنا، وأحسن الأخذ إلى طاعته بأيدينا بقدرته وماضى مشيئته.
ومما يتلقّاه عامة من يسأل عنه بأنه أخذ باللغتين، وسعة باختلاف اللفظين-قراءة أبى عمرو:«وتفقّد الطير فقال ما لى لا أرى الهدهد»، بسكون الياء من «لى»، وقراءته أيضا:«وما لى لا أعبد الذى فطرنى»، بتحريك الياء.
وعلة ذلك ليس الجمع بين اللغتين كما يفتى به جميع من تسأله عنه، لكنه لما جاز الوقف على قوله تعالى:«وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ»، وأن يستأنف فيقول:«لا أَرَى الْهُدْهُدَ» -سكن الياء من «لى»؛ أمارة لجواز الوقوف عليها. ولما لم يحسن الابتداء بقوله:«لا أعبد الذى فطرنى» -حرك الياء من «لى» قبلها؛ أمارة لإدراج الكلام ووصله، وذاك أن الحركة من أعراض الوصل، والسكون من أعراض الوقف. فهل يحسن مع وجود هذا الفرق الواضح الكريم أن يخلد دونه إلى التّعذّر بما يخلد إليه الموهون المضيم؟ اللهم انفعنا بما استودعتناه، واجعل بك اعتصامنا، وإلى طاعتك توجّهنا، إنك لطيف بنا وأنت حسبنا.