وقد شاع واتسع عنهم حمل ظاهر اللفظ على معقود المعنى، وترك الظاهر إليه، وذلك كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإفراد الجماعة وجمع المفرد. وهذا فاش عنهم، وقد أفردنا له بابا فى كتابنا فى الخصائص ووسمناه هناك بشجاعة العربية. وكأنه-والله أعلم-إنما عدل فيه عن الخطاب إلى الغيبة فقال: يرجعون بالياء رفقا من الله سبحانه بصالحى عباده المطيعين لأمره.
وذلك أن العود إلى الله للحساب أعظم ما يخوّفه ويتوعّد به العباد. فإذا قرئ ترجعون فيه إلى الله فقد خوطبوا بأمر عظيم يكاد يستهلك ذكره المطيعين العابدين، فكأنه تعالى انحرف عنهم بذكر الرجعة فقال: يرجعون فيه إلى الله. ومعلوم أن كل وارد هناك على أهول أمر وأشنع خطر، فقال: يرجعون فيه، فصار كأنه قال: يجازون أو يعاقبون أو يطالبون بجرائرهم فيه، فيصير محصوله من بعد، أى: فاتقوا أنتم يا مطيعون يوما يعذّب فيه العاصون.
ومن قرأ بالتاء «ترجعون» فإنه فضل تحذير للمؤمنين نظرا لهم واهتماما بما يعقب السلامة بحذرهم، وليس ينبغى أن يقتصر فى ذكر علة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بما عادة توسط أهل النظر أن يفعلوه، وهو قولهم: إن فيه ضربا من الاتساع فى اللغة لانتقاله من لفظ إلى لفظ. هذا ينبغى أن يقال: إذا عرى الموضع من غرض معتمد، وسر على مثله تنعقد اليد.
فمنه قوله تعالى:{إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ}، هذا بعد قوله:{الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. فليس ترك الغيبة إلى الخطاب هنا اتساعا وتصرفا، بل هو لأمر أعلى ومهم من الغرض أعنى. وذلك أن الحمد معنى دون العبادة، ألا تراك قد تحمد نظيرك ولا تعبده؛ لأن العبادة غاية الطاعة والتقرب بها هو النهاية والغاية؟ فلما كان كذاك استعمل لفظ «الحمد» لتوسطه مع الغيبة، فقال:{الْحَمْدُ لِلّهِ}، ولم يقل لك، ولما صار إلى العبادة التى هى أقصى أمد الطاعة قال:{إِيّاكَ نَعْبُدُ}، فخاطب بالعبادة إصراحا بها، وتقربا منه عز اسمه بالانتهاء إلى محدوده منها.
وعلى نحو منه جاء آخر السورة، فقال:{صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأصرح بالخطاب لمّا ذكر النعمة، ثم قال:{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، ولم يقل غير الذين غضبت عليهم، وذلك أنه موضع تقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار الكلام إلى ذكر