للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال أبو الفتح: غلا فى قوله غلوّا، وغلا السعر يغلوا غلاء. فصلوا بينهما فى المصدر وإن اتفقا فى الماضى، وهذا أحد ما يدل على ما قدمناه أيضا من أن الماضى والمضارع واسم الفاعل والمصدر تجرى مجرى المثال الواحد، فإذا خولف فيها بين المصادر قام ذلك الخلاف مقام ما كان يجب من اختلاف الأمثلة لاختلاف ما تحتها من المعانى المقصودة؛ وذلك أن أعدل اللغة اختلاف الألفاظ لاختلاف المعانى، فإن اتفقت الألفاظ اختلفت الأمثلة، فإن اتفقت الألفاظ والأمثلة، ووقع التغيير فى بعض المثل قام مقام تغييرها كلها. وذلك نحو: غلا يغلو، فى القول والسعر.

فلما اتفق اللفظان والمثلان فى الماضى والمضارع خالفوا بين مصدريهما؛ ليكون ذلك كالخلاف بين مثاليهما أنفسهما، فقالوا: غلوّا، وغلاء على ما مضى. وكذلك قولهم فى نظائر هذا: وجدت الشئ وجودا، ووجدت فى الحزن وجدا، ووجدت من الغنى وجدا ووجدا ووجدا وجدة، ووجدت على الرجل موجدة، ووجدت الضالة وجدانا، فجعلوا اختلاف المصادر فيها عوضا مما كان يقتضيه أصل وضع اللغة من اختلافها أنفسها، فهذا مقاد يقتاس ويرجع فى نظائره إليه.

نعم، وخصوا غلا فى القول بالغلوّ؛ لأن لفظ فعول أقوى من لفظ فعال، للواوين والضمتين، وضعف الألف والفتحتين؛ وذلك أن الغلوّ فى القول أعلى وأعنى عندهم من غلاء السعر، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً} (١)، وقال تعالى: {يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} (٢)؟ وأما غلاء السعر فلا يدخل النار، ولا يحرّم الجنة، ثم إنهم قالوا: غلت القدر تغلى غليانا، فلما صغر هذا المعنى فى أنفسهم أخذوه من الياء؛ لأنها تنحط عن الواو والضمة إلى الياء والكسرة.

فإن قلت: فقد قالوا: علوت فى المكان أعلو علوّا وعليت فى الشرف علاء؛ فجعلوا الشرف دون ارتفاع النّصبة.

قيل: لم يجف الشرف عندهم، ولا تبشّع تبشّع الكفر والغلوّ فى القول المعاقب


(١) سورة مريم الآيتان (٩٠)، (٩١)، وهى قراءة: الأعمش، ونافع، والكسائى، ويحيى، وأبى حيوة. انظر: (السبعة ٤١٣، النشر ٣١٩/ ٢، الإتحاف ٣٠١، غيث النفع ٢٧٦، الكشف ٩٣/ ٢، الحجة المنسوب لابن خالوية ٤٤٨، التيسير ١٥٠، تحبير التيسير ١٣٩، العنوان ٢١٢، البحر المحيط ٢١٨/ ٦، الكشاف ٥٢٥/ ٢، التبيان ١٣٣/ ٢، مجمع البيان ٥٢٩/ ٦، الرازى ٢٥٤/ ٢١، القرطبى ١٥٦/ ١١).
(٢) سورة النساء الآية (١٧١).

<<  <  ج: ص:  >  >>