الله سبحانه وتعالى، وهو نعم المثيب على الأعمال، وهو أعظم من يؤجر على فضائل الأفعال، ولهذا اختار أن يدل باسمه على الغرض الذى يريده به، لا على الموضع الذى يريده عليه.
ومنهج المحتسب كمنهج الحجة، لا يكاد يخالفه إلا بمقدار ما تقتضيه طبيعة الاحتجاج لقراءة الجماعة والقراءة الشاذة، فأبو الفتح يعرض القراءة، ويذكر من قرأ بها، ثم يرجع فى أمرها إلى اللغة، يلتمس لها شاهدا فيرويه، أو نظيرا فيقيسها عليه، أو لهجة فيردها إليها ويؤنسها بها، أو تأويلا أو توجيها فيعرضه فى قصد وإجمال، أو تفصيل وافتنان على حسب ما يقتضيه المقام، ويتطلبه الكشف عن وجه الرأى فى القراءة.
وهو فى الجملة آخذ بها، مطمئن إليها، وربما وقع فى نفسك من كثرة ما عدد من خصائصها واستخرج من لطائفها، أنه يؤثرها ويحكم لها على قراءة الجماعة، كما فى الاحتجاج لقراءة الحسن:«اهدنا صراطا مستقيما» وإن هو لم يجد للقراءة وجها يسكن إليه، إما لشذوذه فى اللغة، وإما لحاجته فى الاحتجاج إلى ضرب من التكلف والاعتساف، لم يتخرج أن يردها أو يضعف القراءة بها، لا يكاد يأخذها هى نفسها بهذا أو ذاك، ولكن يأخذ به الوجه الذى يتجه بها إليه، فهو أخذ غير مباشر ولا صريح.
فقال مثلا فى الاحتجاج لقراءة ابن محيصن:«ثم أطّرّه إلى عذاب النار» بإدغام الضاد فى الطاء: هذه لغة مرذولة.
وقال فى الاحتجاج لقراءة أبى جعفر يزيد:«للملائكة اسجدوا» بضم التاء: «هذا ضعيف عندنا جدّا».
وليس عجيبا ولا منكورا أن يتشابه الكتابان فى المنهج على هذا النحو؛ فموضوعهما واحد، وصاحب الحجة أستاذ لصاحب المحتسب، ووحدة الموضوع تستدعى تشابها فى علاج مسائله، وللأستاذ فى تلميذه تأثير، وللتلميذ فى أستاذه قدوة.
ولهذا كان «المحتسب» كما كان «الحجة» معرضا حافلا، يزخر بكثير من الشواهد والتوجيهات، وألوان من الآراء والبحوث اللغوية والصوتية التى تدل على الغزارة والتمكن، وعلى شمول الإحاطة، ودقة الملاحظة، وبراعة القياس، وصحة الاستنباط.
وليس هذا بكثير على أبى الفتح، ولا هو مما يتعاظمه، فذلك دأبه فى كل ما عرفنا له من كتب، ثم هو بعد هذا قد ألف المحتسب فى آخر حياته كما سبق، أى حين استفاضت تجاريه، واستحصدت ملكاته، وبلغت معارفه غاية ما قدر لها من نضج واكتمال.
على أن ابن جنى كان يأخذ على الحجة أن الشيخ أبا على قد أغمضه وأطال الاحتجاج فيه حتى عىّ به القراء، وجفا عنه كثير من العلماء.
قال فى مقدمة المحتسب:«فتجاوز فيه قدر حاجة القراء إلى ما يجفو عنه كثير من العلماء».