للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَنَّى يَكُونُ لِى وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} . وَاقْتِصَارُهَا فِي آيَةِ «آلِ عِمْرَانَ» عَلَى قَوْلِهَا {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ الْمَنْفِيَّ عَنْهَا شَامِلٌ لِلْمَسِيسِ بِنِكَاحٍ وَالْمَسِيسِ بِزِنًى، كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» : {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} يَظْهَرُ فِيهِ أَنَّ قَوْلَهَا «وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا» : تَخْصِيصٌ بَعْدَ تَعْمِيمٍ؛ لِأَنَّ مَسِيسَ الْبَشَرِ يَشْمَلُ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى هُنَا {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً} جَعَلَ الْمَسَّ عِبَارَةً عَنِ النِّكَاحِ الْحَلَالِ لِأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} . {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَآءَ} وَالزِّنَى لَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّمَا يُقَالُ فِيهِ: فَجَرَ بِهَا، وَخَبُثَ بِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ بِقَمِنٍ أَنْ تُرَاعَى فِيهِ الْكِنَايَات والآداب اهـ.

وَالْأَظْهَرُ الْأَوَّلُ، وَآيَةُ آلِ عِمْرَانَ تَدُلُّ عَلَيْهِ. وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ لَفْظَةَ «بَشَرٌ» نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ كُلَّ بَشَرٍ: فَيَنْتَفِي مَسِيسُ كُلِّ بَشَرٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَالْبَغِيُّ: الْمُجَاهِرَةُ المشتهر بالزنى ...

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يالَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} . ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَن مَرْيَم حملت عِيسَى. فَقَوله {حَمَلَتْهُ} أَيْ عِيسَى {فَانْتَبَذَتْ بِهِ} : أَيْ تَنَحَّتْ بِهِ وَبَعُدَتْ مُعْتَزِلَةً عَنْ قَوْمِهَا {مَكَاناً قَصِيّاً} أَيْ فِي مَكَانهَا بَعِيدٍ: وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمَكَانَ الْمَذْكُورَ بَيْتُ لَحْمٍ. وَفِيهِ أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {فَأَجَآءَهَا الْمَخَاضُ} أَيْ أَلْجَأَهَا الطَّلْقُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ، أَيْ جِذْعِ نَخْلَةٍ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَالْعرب تَقول: جَاءَ فلَان، وأجاءه غَيْرُهُ: إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الْمَجِيءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:

وَجَارٍ سَارَ مُعْتَمِدًا إِلَيْنَا ... أَجَاءَتْهُ الْمَخَافَةُ والرجاء

<<  <  ج: ص:  >  >>