لا خُلف فيه {فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا} أي فلا تلهكم الحياة الدنيا بزخرفها ونعيمها عن الحياة الآخرة، قال ابن كثير: أي لا تتلهَّوا عن تلك الحياة الباقية، بهذه الزهرة الفانية {وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور} أي ولا يخدعنكم الشيطان المبالغ في الغرور فيطمعكم في عفو الله وكرمه، ويمنيكم بالمغفرة مع الإِصرار على المعاصي. ثم بيَّن تعالى عداوة الشيطان للإِنسان فقال:{إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} أي إن الشيطان لكم أيها الناس عدوٌ لدود، وعداوته قديمة لا تكاد تزول فعادوه كما عاداكم ولا تطيعوه، وكونوا على حذرٍ منه، قال بعض العارفين: يا عجباً لمن عصى المحسن بعد معرفته بإحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته {إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير} أي إنما غرضه أن يقذف بأتباعه في نار جهنم المستعرة التي تشوي الوجوه والجلود، لا غرض له إلا هذا، فهل يليق بالعاقل أن يستجيب لنداء الشيطان اللعين؟ قال الطبري: أي إنما يدعو شيعته ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها {الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي الذين جحدوا بالله ورسله لهم عذاب دائم شديد لا يُقادر قدره، ولا يوصف هولُه {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي لهم عند ربهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر كبير وهو الجننة، وإنما قرن الإِيمان بالعمل الصالح ليشير إلى أنهما لا يفترقان، فالإِيمان تصديقٌ، وقول، وعمل {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} الاستفهام للإِنكار وجوابه محذوف والتقدير: أفمن زيَّن له الشيطان عمله السيء حتى رآه حسناً واستحسن ما هو عليه من الكفر والضلال، كمن استقبحه واجتنبه واختار طريق الإِيمان؟ ودلَّ على هذا الحذف قوله تعالى:{فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} أي الكلُّ بمشيئة الله، فهو تعالى الذي يصرف من يشاء عن طريق الهدى، ويهدي من يشاء بتوفيقه للعمل الصالح والإِيمان {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي فلا تغتمَّ يا محمد ولا تُهلك نفسك حسرةً على تركهم الإِيمان {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو جل وعلا العالم بما يصنع هؤلاء من القبائح ومجازيهم عليها، وفيه وعيد لم بالعقاب على سوء صنيعهم {والله الذي أَرْسَلَ الرياح} أي والله تعالى بقدرته هو الذي أرسل الرياح مبشرة بنزول المطر {فَتُثِيرُ سَحَاباً} أي فحركت السحاب وأهاجته، والتعبيرُ بالمضارع عن الماضي {فَتُثِيرُ} لاستحضار تلك الصورة البديعة، الدالة على كمال القدرة والحكمة {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} أي فسقنا السحاب الذي يحمل الغيث إلى بلدٍ مجدب قاحل {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} فيه حذفٌ تقديره فأنزلنا به الماء فأحيينا به الأرض بعد جدبها ويبسها {كَذَلِكَ النشور} أي كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يحيي الموتى من قبورهم، روى الإِمام أحمد عن أبي رُزين العقيلي قال:
«قلت يا رسول الله: كَيْفَ يُحْيِي الله المَوْتَى؟ وَمَا آيةُ ذلكَ فِي خَلْقِهِ؟ فقال:» أَمّا مَرَرْتَ بِوَادِي أهْلِكَ مُمْحِلاً، ثُمَّ مَرَرْتَ بهِ يَهْتَزُّ خَضِراً؟ «قلت: نعم: يا رسول الله، قال:» فكذلك يُحْيِي الله المَوْتَى، وَتِلْكَ آيَتُهُ فِي خَلْقِهِ «قال ابن كثير: كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها، فإن الأرض تكون ميتة هامدة