للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

فأعطانا سؤالنا {إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} أي إنه تعالى هو المحسن، والمتفضل على عباده بالرحمة والغفران، وهو كالتعليل لما سبق، عن مسروق أن عائشة رضي الله تعالى عنها قرأت هذه الآية {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} فقالت: اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم.

اللغَة: {رَقٍّ} الرَّق بالفتح والكسر جلد رقيق يكتب فيه وقال أو عبيدة: الرقُّ الورق وفي الصحاح: الرقُّ بالفتح ما يكتب فيه وهو جلد رقيب {المسجور} الموقد ناراً يقال: سجرت النار أي أوقدتها {تَمُورُ} مار الشيء يمور موراً إذ تحرك واضطرب، وجاء وذهب، قال جرير:

وما زالت القتلى تمور دماؤها ... بدجلة حتى ماء دجلة أشكل

{يُدَعُّونَ} يدفعون بشدة عنف، والدَّع: الدفع بشدة وإهانة {أَلَتْنَاهُمْ} أنقصناهم {رَهَينٌ} محبوس {السموم} لريح الحارة النافذة في المسام

التفسِير: {والطور وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ} أقسم تعالى بجل الطور الذي كلَّم الله عليه وسمى، وأقسم بالكتاب الذي أنزله على خاتم رسله وهو القرآن العظيم المكتوب {فِي رَقٍّ} أي في أديمٍ من الجلد الرقيق {مَّنْشُورٍ} أي مبسوط غير مطوي وغير مختوم عليه قال القرطبي: أقسم الله تعالى بالكتاب المسطور أي المكتوب وهو القرآن يقرأه المؤمنون من المصاحف، ويقرأه الملائكة من اللوح المحفوظ، وقيل يعني بالكتاب سائر الكتب المنزلة على الأنبياء لأن كل كتاب في رقٍّ ينشره أهله لقراءته، والرقُّ ما رٌقّق من الجلد ليكتب فيه {والبيت المعمور} أي وأُقسم بالبيت المعمور الذي تطوف به الملائكة الأبرار، وهو لأهل السماء كالكعبة المشرفة لأهل الأرض، وفي حديث الإِسراء «ثم رفع إِليَّ البيت المعمور، فقلت يا جبريل ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك، إِذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم» وقال ابن عباس: هو بيت في السماء السابعة حيال الكعبة أي مقابلها وحذاءها تعمره الملائكة، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه {والسقف المرفوع} أي والسماء العالية المرتفعة، الواقفة بقدرة الله بلا عمد، سمَّى السماء سقفاً لأنها للأرض كالسقف للبيت ودليله {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: ٣٢] وقال ابن عباس: هو العرش وهو صف الجنة {والبحر المسجور} أي والبحر المسجور الموقد ناراً يوم القايمة كقوله {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} [التكوير: ٦] أي أضرمت حتى تصير ناراً ملتهبة تتأجج تحيط بأهل الموقف {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} هذا جواب القسم أي إن عذاب الله لنازل بالكفارين لا محالة قال ابن الجوزي: أقسم تعالى بهذه الأشياء الخمسة للتنبيه على ما فيها من عظيم قدرته على أن عذاب المشركين حق {مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ} أي ليس له دافع يدفعه عنهم قال أبو حيان: والواو الأولى للقسم وما بعدها للعطف، والجملة المقسم عليها هي {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} وفي فإضافته إِلى الرب وإِضافته لكاف الخطاب أمانٌ له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن العذاب واقع بمن كذبه، ولفظ واقع أشد من كائن، كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حلَّ به {يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً} أي تتحرك السماء وتضطرب اضطراباً شديداً من هول ذلك اليوم {وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً} أي تنسف نسفاً عن وجه الأرض فتكون هباءً منثوراً كقوله

{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: ١٠٥] قال الخازن: والحكمة في مور السماء وسير الجبال، الإِنذارُ والإِعلام بأن لا رجوع ولا عود إلى الدنيا، وذلك لأن الأرض والسماء وما بينهما من الجبال والبحار وغير ذلك إنما خلقت لعمارة الدنيا وانتفاع بني آدمم بذلك، فلما لم يبق لهم عودٌ إليها أزالها الله تعالى وذلك لخراب الدنيا وعمارة الآخرة {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} أي هلاك ودمار وشدة عذاب للمكذبين أرسلَ الله في ذلك اليوم الرهيب {الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} أي الذين هم في الدنيا يخوضون في الباطل غافلون ساهون عما يراد بهم {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} أي يوم يُدفعون إلى نار جهنم دفعاً بشدة وعنف قال في البحر: وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعون بهم دفعاً إلى النار على وجوههم وزجاً في أقفيتهم حتى يردوا إلى النار، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها {هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي هذه نار جهنم التي كنتم تهزءون وتكذون بها في الدنيا {أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ} أي وتقول لهم الزبانية تقريعاً وتوبيخاً: هل هذا الذي ترونه بأعينكم من لعذاب سحرٌ، أم أنتم اليوم عميٌ كما كنتم في الدنيا عمياً عن الخبر والإِيمان؟ قال أبو السعود: وقوله تعالى {أَفَسِحْرٌ هذا} توبيخ لهم وتقريع حيث كانوا يسمون القرآن الناطق بالحق سحراً فكأنه يل لهم: كنتم تقولون عن القرآن إنه سحر أفهذا العذاب ايضاً سحر أم سُدَّت أبصاركم كما سدَّت في الدنيا؟ {اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ} أي قاسوا شدتها فاصبروا على العذاب أو لا تصبروا، وهو توبيخ آخر {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} أي يتساوى عليكم الصبر والجزع لأنكم مخلدون في جهنم أبداً {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة من الكفر والتكذيب، ولا يظلم ربك أحداً. . ولما ذكر حال الكفرة الأشقاء ذكر حال المؤمنين السعداء على عادة القرآن الكريم في الجمع بين الترهيب والترغيب فقال {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ} أي إن الذين اتقوا ربهم في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم في الآخرة في بساتين عظيمة ونعيم مقيم خالد {فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} أي متنعمين ومتلذذين بما أعطاهم ربهم من الخير والكرامة وأصناف الملاذ من مآكل ومشارب، وملابس ومراكب، وغير ذلك من ملاذ الجنة {وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم} أي وقد نجاهم ربهم من عذاب جهنم وصرف فيها من السرور ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يقال لهم: كلوا واشربوا أكلاً وشرباً هنياً، لاتنغيص فيه ولا كدر، بسبب ما قدمتم من صالح الأعمال.

. ثم أخبر تعالى عن حالهم عند أكلهم وشربهم فقال {مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ} أي جالسين على هيئة المضطجع على سرر من ذهب مكلَّلة بالدر والياقوت، مصطفة بعضها إلى جانب بعض، قال ابن كثير: {مَّصْفُوفَةٍ} أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله {على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الحجر: ٤٧] وفي الحديث «إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنةً ما يتحول عنه ولا يملُّه، يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه» {وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ} أي وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين، وهنَّ نساء بيض واسعات العيون من الحَوَر وهو شدة البياض، والعينُ جمع عيناء وهي كبير العين والبياضُ مع سعة العين نهاية الحسن والجمال {والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ} أي كانوا مؤمنين وشاركهم أولادهم في الإِيمان {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} أي ألحقنا الأبناء بالآباء لتقرَّبهم أعينهم وإن لم يبلغوا أعمالهم قال ابن عباس: إن الله عزو جل ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة وإن كان لم يبلغها بعمله لترَّبهم عينه وتلا الآية قال الزمخشري: فيجمع الله لأهل الجنة أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم، وبمزاوجة الحور العين، وبمؤانسة الإِخوان المؤمنين، وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم {وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} أي وما نقصنا الآباء من ثواب عملهم شيئاً قال في البحر: المعنى أنه تعالى يُلحق المقصِّر بالمحسن ولا ينقص المسحن من أجره شيئاً {كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ} أي كل إِنسان مرتهن بعمله لا يُحمل عليه ذنب غيره سواء كان أباً أو إِبناً وقال ابن عباس: ارتهن أهل جهنم بأعمالهم، وصار أهل الجنة إلى نعيمهم وقال الخازن: المراد بالآية الكافر أي كل كافر بما عمل من الشرك مرتهن بعمله في النار، والمؤمن لا يكون مرتهناً بعمله لقوله تعالى {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين} [المدثر: ٣٨٣٩] . . ثم ذكر ما وعدهم به من الفضل والنعمة فقال {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ} أي وزدناهم فوق ما لهم من النعيم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويُشتهى {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً} أي يتعاطون في الجنة كأساً من الخمر، يتجاذبها بعضهم من بعض تلذذاً وتأنساً قال الألوسي: أي يتجاذبونها تجاذب ملاعبة كما يفعل ذلك الندامى في الدنيا لشدة سرورهم {لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ} أي لا يقع بينهم بسبب شربها هذيان حتى يتكلموا بساقط الكلام، ولا يلحقهم إِثم كما يلحق شارب الخمر في الدنيا قال قتادة: نزّه الله خمر الآخرة عن قاذورات الكلام الفارغ الذي لا فائدة فيه، المتضمن للهذيان والفحش، ووصفها بحسن منظرها وطيب طعمها، فقال

{بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} [الصافات: ٤٦٤٧] ثم قال تعالى {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ} أي ويطوف عليهم للخدمة غلمان مماليك خصصهم تعالى لخدمتهم {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ} أي كأنهم في الحسن، والبياض، والصفاء اللؤلؤ المصون في الصدف قال القرطبي: وهؤلاء الغلمان قي لهم أولاد المشركين وهم خدم أهل الجنة، وليس في الجنة نصيب ولا حاجة إلى خدمة، ولكنه أخبر بأنهم علىغاية النعيم {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أي اقبل أهل الجنة يسأل بعضهم بعضاً عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا، تلذذاً بالحديث، واعترافاً بالنعمة {قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} أي قال المسئولون: إنا كنا في دار الدنيا خائفين من ربنا، مشفقين من عذابه وعقابه {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم} أي فأكرمنا الله بالمغفرة والجنة، وأجرنا مما نخاف، وحمانا من عذاب جهنم النافذة في المسام نفوذ الريح الحارة الشديدة وهي التي تسمى {السموم} قال الفخر الرازي: والآية إشارة إلى أن أهل الجنة يعلمون ما جرى عليهم في الدنيا ويذكرونه، وكذلك الكافر لا ينسى ما كان له من النعيم في الدنيا، فتزاداد لذة المؤمن حيث يرى نفسه انتقلت من الضيف إلى السعة، ومن السجن إلى الجنة، ويزداد الكفار ألماًَ حيث يرى نفسه انتقلت من النعليم إلى الجحيم {إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ} أي قال أهل الجنة: إنا كنا في الدنيا نعبد الله ونتضرع إليه، فاستجاب الله لنا فأعطانا سؤالنا {إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} أي إنه تعالى هو المحسن، والمتفضل على عباده بالرحمة والغفران، وهو كالتعليل لما سبق، عن مسروق أن عائشة رضي الله تعالى عنها قرأت هذه الآية {فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم} فقالت: اللهم مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم إنك أنت البر الرحيم.

<<  <  ج: ص:  >  >>