يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِءَادَمَ} أي إِن شأن عيسى إِذ خلقه بلا أب - وهو في بابه غريب - كشأن آدم {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} أي خلق آدم من غير أب ولا أم ثم قال له كن فكان، فليس أمر عيسى بأعجب من أمر آدم {الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} أي هذا هو القول الحق في عيسى فلا تكن من الشاكين {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} أي من جادلك في أمر عيسى بعدما وضح لك الحق واستبان {فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ} أي هلمّوا نجتمع ويدعو كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه إِلى المباهلة وفي صحيح مسلم لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاطمة وحسناً وحسيناً فقال: اللهم هؤلاء أهلي {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين} أي نتضرع إلى الله فنقول: اللهم العن الكاذب منا في شأن عيسى، فلما دعاهم إِلى المباهلة امتنعوا وقبلوا بالجزية عن ابن عباس أنه قال «لو خرج الذين يباهلون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً» قال أبو حيان: «وفي ترك النصارى الملاعنة لعلمهم بصدقه شاهد عظيم على صحة نبوته» ثم قال تعالى {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا شك فيه {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} أي لا يوجد إله غير الله، وفيه ردٌّ على النصارى في قولهم بالتثليث {وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم} أي هو جل شأنه العزيز في ملكه الحكيم في صنعه {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين} أي إِن أعرضوا عن الإِقرار بالتوحيد فإِنهم مفسدون والله عليم بهم وسيجازيهم على ذلك شر الجزاء.
البَلاَغَة: ١ - {فَلَمَّآ أَحَسَّ} قال أبو حيان: فيها استعارة إِذ الكفر ليس بمحسوس وإِنما يُعلم ويفطن به فإِطلاق الحسّ عليه من نوع الاستعارة.
٢ - {والله خَيْرُ الماكرين} بين لفظ مكرواً والماكرين جناس الاشتقاق وهو من باب المشاكلة.
٣ - {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} فيه التفات من ضمير التكلم إِلى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة.
٤ - {الحق مِن رَّبِّكَ} التعرض لعنوان الربوبية مع الإِضافة إِلى الرسول لتشريفه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ.
٥ - {فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين} هو من باب الإِلهاب والتهييج لزيادة التثبيت أفاده أبو السعود.
لطيفَة: قال صاحب البحر المحيط: سأل رجل الجيد فقال: كيف رضي الله سبحانه لنفسه المكر وقد عاب به غيره، فقال: لا أدري ما تقول ولكن أنشدني فلان الظهراني:
ويقبح من سواك الفعل عندي ... فتفعله فيحسن منك ذاكا