والمشهد الثالث من مشاهد القصة: مشهدُ نوح يصنع الفلك {وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ} والتعبير بالمضارع هو الذي يعطي المشهد حيويته وجدَّته، فنحن نراه ماثلاً لخيالنا من وراء هذا التعبير، وقومه المتكبرون يمرون به فيسخرون، يسخرون من الرجل الذي كان يقول لهم إنه رسول ثم إذا هو ينقلب نجاراً يصنع مركباً، والمشهد الرابع: مشهد التعبئة عندما حلت اللحظة المرتقبة {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين. .} ثم يأتي المشهد الهائل المرهوب: مشهد الطوفان {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال ... وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين} إن الهول هنا هولان: هولٌ في الطبيعة الصامتة، وهولٌ في النفس البشرية يلتقيان. وإننا بعد آلاف السنين لنمسك أنفسنا - ونحن نتابع السياق - والهولُ يأخذنا كأننا نشهد المشهد، {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال} ونوحٌ الوالد الملهوف يبعث بالنداء تلو النداء، وابنه الفتى المغرور يأبى إجابة الدعاء، والموجة الغامرة تحسم الموقف في سرعة خاطفة راجفة {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين} وينتهي كل شيء، وكأن لم يكن دعاء ولا جواب، وتلك سمة بارزة في تصوير القرآن، وتهدأ العاصفة، ويخيّم السكون، ويقضى الأمر، ويوجه الخطاب إلى الأرض والسماء بصيغة العاقل، فتستجيب كلتاهما للأمر الفاصل، فتبلع الأرض وتكف السماء {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي وَغِيضَ المآء وَقُضِيَ الأمر واستوت عَلَى الجودي وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} .