إذا استحضرنا أن السائل لا يسأل عن رأي المفتي، وإنما يسأل عن حكم الله تعالى، الذي هو دين يدان به، فمن حق السائل أن يستوثق من ذلك، وأقل درجات الاستيثاق: طلب الدليل، فإن المفتي إذا قال للمستفتي: الدليل هو الحديث الشريف الذي نصه كذا وكذا، أو معناه كذا وكذا، سكن المستفتي واطمأن. أما إذا قال له المفتي: " إن الدليل هو رأيي واجتهادي " فإذا اطمأن المستفتي بذلك بناءً على أهلية المفتي للفتيا، وأن اجتهاده سائغ، ومظنة الصواب، فلا بأس، وأما إذا لم يطمئن قلبه إلى جواب المفتي المبني على محض رأي منه واجتهاد؛ فله أن يستفتي غيره. واعلم -وفقك الله- أن ذكر الدليل ليس شرطًا في صحة الفتوى ولا في قبولها -وان كان أمرًا مستحسنًا- وقد نقل غير واحد من الأصوليين الإجماع على أنه لم يزل أهل العلم يبادرون إلى إجابة أسئلة العامة من غير ذكر الدليل كلما في " الإحكام "، للآمدي (٤/ ٢٢٦)، و " المعتمد " (٢/ ٩٣٤)، بل قال الشاطبي رحمه الله في " الموافقات ": " إن فتاوى المجتهدين بالنسبة إلى العوام كالأدلة الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين، والدليل عليه أن وجود الأدلة بالنسبة إلى المقلدين وعدمها سواء؛ إذ كانوا لا يستفيدون منها شيئًا، فليس النظر في الأدلة والاستنباط من شأنهم، ولا يجوز ذلك لهم ألبتة، وقد قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: ٤٣]، والمقلد غير عالم، فلا يصح له إلا سؤال أهل الذكر، وإليهم مرجعه في أحكام الدين على الإطلاق، فهم إذن القائمون له مقام الشارع، وأقوالهم قائمة مقام الشارع " اهـ. من " الموافقات " (٤/ ٢٩٢ - ٢٩٣). وتوسط بعض العلماء فقال: يلزم المفتي أن يذكر له الدليل إن كان مقطوعًا به، كالأمور الجلية المجمع عليها، والتي ليست من مواضع التقليد ولا الاجتهاد، ولا يلزمه ذلك إن لم يكن مقطوعًا به لافتقاره إلى الاجتهاد من غامض الفقه الذي يتعسر القطع فيه بحكم معين ونسبته إلى الشرع، كما يقصر فهم العامي عنه لدقة مستدركه.