ومن الثابت أن هذه الحملات الحبشية الأولى كانت تهدف إلى انتزاع السيادة التجارية من اليمنيين ونشر الدين المسيحي في ربوع اليمن بتحريض من الرومان, كما كانت بمثابة حملات استطلاعية مهدت السبيل لحملات تالية. غير أن الحكم الحبشي لم يستطع أن يعيش طويلًا، إذ تضافرت جهود الحميريين من مختلف الفئات، من دينية ورسمية، في مقاومة الأحباش وتمكنوا من إخراجهم سنة ٣٧٨م، وعاد الحميريون إلى حكم بلادهم حتى عام ٥٢٥م.
ويطلق الأخباريون العرب على ملوك هذا الدور لقب "التبابعة""جمع: تبع"، ويروون قصصًا خيالية عن قوتهم وعظمتهم، لا سيما امتداد حكم بعض ملوكهم إلى أماكن بعيدة كغزو سمرقند وفارس والسغد وأفريقية وبسط السيطرة العربية عليها١، مما يتنافى مع الحقيقة التاريخية، ولا يمكن قبوله، لا سيما في هذه الفترة التي كانت اليمن فيها مهددة بالغزو الخارجي.
في هذا الدور دخلت الديانتان المسيحية واليهودية إلى بلاد العرب. أما الديانة المسيحية فقد دخلتها بواسطة مبشرين من نساطرة سورية والحيرة تسربوا إلى الجزيرة العربية، أو بواسطة اليعاقبة أتباع مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح، الذين جاءوا من الحبشة وأنشئوا لهم كنائس عديدة في عدن وظفار ونجران، وكان قيصر الروم البيزنطي الإمبراطور قسطنطين من وراء هذه المحاولات. فقد عمل على إدخال المسيحية إلى بلاد العرب سواء بطريقة الدعاية أو التبشير "إرسال بعثات تبشيرية برئاسة كهنة منهم: توفيل فرومنتوس" أو بطريق الفتح الحربي لتحقيق غاية مزدوجة هي نشر الدين المسيحي ونفوذ الروم السياسي والتجاري في آن واحد، مستهدفًا من ذلك كله مقاومة نفوذ الفرس الذي أخذ يتغلغل في البلاد، ومقاومة الديانة اليهودية في الوقت نفسه.
ذلك أن اليهود أخذو ينتشرون في العالم بعد أن استولى الرومان على فلسطين ونكلوا
١ نسب إليهم الأخباريون غزو أفريقية والبربر وبلاد المغرب ووصولهم إلى الشرق حتى أذربيجان وإلى بلاد السند فيما وراء النهر، وإلى بلاد الروم حتى القسطنطينية، وحتى إلى بلاد الصين في حروبهم وفتوحهم مما لم يرد له أية إشارة أو دليل في تواريخ الأمم المجاورة أو في الآثار الباقية عن المناطق المذكورة. وقد وصف ابن خلدون هذه الأقوال بأنها عريقة في الوهم والغلط.