للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[حضارة المناذرة والغساسنة]

[مدخل]

...

[حضارة المناذرة والغساسنة]

من مقارنة حضارة المناذرة بحضارة الغساسنة تتضح لنا أمور عديدة؛ فبينما اتخذ المناذرة عاصمة ثابتة هي "الحيرة" لم يتخذ الغساسنة عاصمة ثابتة، بل كان مقرهم في أول الأمر عبارة عن معسكر متنقل، ثم اتخذوا "الجابية" في جنوب دمشق، قرب مرج الصفر شمال حوران عاصمة لهم، وفي وقت ما "جلق" قرب دمشق، في مكان على نهر بردى، أو "بصرى الشام".

وقد وجد في الحيرة بعد أن قدم إليها المناذرة ثلاثة عناصر من السكان: رجال القبائل العربية من تنوخ, ثم سكان الحيرة الأصليون "العباد" وكانوا نصارى على المذهب النسطوري، يزاولون التجارة ويعرفون القراءة والكتابة, ثم الأحلاف وهم بعض العرب الذين نزلوا على القوم، وارتبطوا معهم بحلف، وكانت السيادة والسيطرة للعنصر العربي. وقد وجد في الحيرة نحل دينية كثيرة: من وثنيين يعبدون الأصنام، وصابئة يعبدون الكواكب، ومجوس يعبدون النار، ويهود, ومسيحيين أكثرهم على المذهب النسطوري، وأقلهم على مذهب اليعاقبة الذين يعتقدون بالطبيعة الواحدة للمسيح. والحيرة تمتاز بهوائها النقي العليل وبتربتها الخصبة وموقعها الممتاز من الناحيتين العسكرية والتجارية، اسمها يعني المخيم بالسريانية.

والدولتان كانتا من النوع الذي نسميه اليوم "الدول الحاجزة" لوقوعهما على حدود دولتين كبيرتين، عمدتا إلى استخدامهما مجنا يصد عنهما غارات البدو والغزوات المتبادلة بينهما، وكلتاهما ارتبطتا بالدولتين الكبيرتين بأحلاف وارتباطات عسكرية، وكانتا تتمتعان بمستوى واحد من الاستقلال الذاتي والتبعية السياسية والعسكرية للأجنبي. وبينما امتد حكم المناذرة زهاء أربعة قرون، لم يدم حكم الغساسنة سوى قرن وبعض القرن، وانقرضتا بعدئذٍ معًا بفضل الفتح العربي الإسلامي.

<<  <   >  >>