إن من يتصدى لتأريخ عهد ما قبل الإسلام يواجه عناءً وجهدًا عظيمين في معالجته، فبالرغم مما اكتشف في جنوبي شبه الجزيرة العربية وفي شماليها من كتابات أثرية ألقت بعض الضوء على التاريخ القديم لهذه المناطق، لم تزل هذه الحقبة من التاريخ العربي غامضة في نظر المؤرخين؛ لأن ما تم كشفه من آثار، وما عثر عليه من نقوش وكتابات ليس كافيا لجلاء ما غمض من تاريخ المنطقة جلاء تاما، ولا بد من مزيد من التنقيب في وسط شبه الجزيرة وفي أطرافها -تلك الأراضي البكر التي لم تعمل فيها فأس المنقبين عملا جادا- وتشجيع علماء الآثار ومنحهم جميع التسهيلات المادية والمعنوية للتجول في جميع أطراف شبه الجزيرة العربية؛ لإجراء التنقيبات الضرورية والبحث عن العاديات، إذ لا يستبعد أن تأتي الآثار التاريخية المدفونة في جوفها بنتائج غاية في الأهمية قد تلقي ضوءًا كاشفًا على تاريخ ما قبل الإسلام، فيسهل على المؤرخين الخوض فيما اعتادوا أن يستصعبوه.
ومما يزيد الصعوبة في تأريخ هذه الحقبة أن قدامى المؤرخين المسلمين لم يبذلوا أي جهد في تحقيق وتمحيص ما وصلهم من أخبار عرب الجاهلية، تلك التي أوردوها كما سمعوها من أفواه الرواة، على ما فيها من تناقض ومن قصص خيالية مليئة بالأساطير، أو أخذوها من أهل الكتاب، وبخاصة منهم اليهود، أو وضعوها في الإسلام "لمآرب اقتضتها العواطف والمؤثرات الخاصة"١, لا سيما وأن تعاليم الإسلام -بما جاء فيها من تهديم للوثنية ولأخلاق الجاهلية- قد قضت بعدم الاهتمام بما يمتُّ إلى الجاهلية بصلة، لا بل شغل المؤرخون المسلمون بالتأريخ للإسلام، فدونوا كل واقعة من وقائعه وأشبعوها تدقيقا وتمحيصا، وانصرفوا عن التأريخ لعهود ما قبل الإسلام. ولم يفطن أحد منهم إلى ما يمكن أن تنبثق عنه الدراسات الموضوعية من تصحيح لما ذخرت به الروايات من تلفيق ومجانبة للواقع في تأريخ حقبة التاريخ العربي القديم الذي طمست مفاخره عن قصد أو عن غير قصد من قِبَل الأخباريين الإسلاميين.