للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لرواية أوردها ابن سعد وابن الأثير يتمها المسعودي١ بقوله: "إن إبراهيم استودع زوجته وابنه خالقه، وكان من ظمأ إسماعيل، وسعي هاجر بين الصفا والمروة ذهابًا وإيابًا بحثًا عن الماء، أن أنبع الله لهما زمزم". وتضيف الروايات العربية إلى ذلك قولها: "إن ظهور الماء قد جذب أول قبيلة قدمت إليها وهي جرهم٢" فضرب أفرادها خيامهم قرب الماء، واستقروا وعاشوا مع الطفل وأمه. وقد ترعرع إسماعيل فيهم حتى إذا كبر زوجوه منهم. ثم جاء إبراهيم من الشام ليتفقد زوجته وولده وتعاون مع إسماعيل في بناء البيت٣, وأن إسماعيل قد أنسل اثني عشر ولدًا نشأت منهم العرب المستعربة، وأنهم تركوا لجرهم الحكم في مكة رعاية للخئولة، بينما تقول روايات أخرى: إن جرهم كانت موجودة قبل ذلك في مكة، وكان معها حولها قوم العماليق، لا بل إن العماليق كانوا أسبق من جرهم في سكنى مكة.

لا شك أن هذه الروايات تستند إلى نصوص إسرائيلية، وهي موجودة فعلا في الكتب العبرية، ومنصوص عنها في التلمود، وما أورد الأخباريون العرب منها فيه من الاضطراب ما نلمسه فيما روى ابن الأثير منها "الكامل: ١/ ٦١". وهي وإن قصرت عن إضفاء السمة العلمية الدقيقة على تاريخ هذه الفترة، إلا أنها تشير إلى حقيقة تاريخية لا ريب فيها٤، وهي قدوم إبراهيم وابنه إسماعيل، وبناؤه البيت الحرام الذي أسبغ على


١ المسعودي: مروج الذهب ... ٢/ ١٨.
٢ تقول الرواية: إن جرهم كانت بوادٍ قريب من مكة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاءوا إلى هاجر وقالوا: لو شئت لكنا معك فآنساك، والماء ماؤك. قالت: نعم، فكانوا معها حتى شب إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم "ابن الأثير: ١/ ٥٩".
٣ الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، ٢/ ٤-٥.
٤ راجع في كتاب حياة محمد: الدكتور محمد حسين هيكل "ص٨٩-٩٠" ما ذكر من أن المستشرق "وليم موير Sir W. Muir" في كتابه "حياة محمد وتاريخ الإسلام Life of Mahomet and history bof islam" يرتاب في قصة ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز، ويرى أنها من صنع اليهود، ابتدعوها قبل الإسلام بأجيال؛ ليربطوا بينهم وبين العرب برابطة قرابة دموية وجب على العرب حسن معاملة اليهود النازلين بينهم, وتيسر لتجارة اليهود وانسيابها الحر في شبه الجزيرة، ويستند في قوله هذا إلى أنه لا صلة بين أوضاع العبادة في بلاد العرب وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنية مغرقة في وثنيتها بينما كان إبراهيم حنيفا مسلما. ويرد الدكتور محمد حسين هيكل عليه بأن ما يسوقه من دليل، لا يكفي لنفي واقعة تاريخية، ويبرهن على خطل رأيه بأن إبراهيم لم يستطع أن يحول قومه الوثنيين في العراق عن دينهم, واضطر إلى الهرب من وجههم، فإذا لم ينجحوا في تحويل العرب عن وثنيتهم فلا عجب في ذلك.

<<  <   >  >>