للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

العربي، وتخلت عن دورها التجاري المرموق، فتسلمت مكة وأهلها قريش مقاليد التجارة في شبه الجزيرة العربية، لا سيما وأن العلاقات التجارية بين قريش وبين الأحباش الذين احتلوا اليمن، وبينهم وبين البيزنطيين الذين حرضوهم عليهم كانت حسنة.

يضاف إلى ذلك أن الحروب الطويلة بين الفرس والروم البيزنطيين في مستهل القرن السابع الميلادي، قد أتاحت لتجارة مكة أن تزدهر؛ بسبب أن هذه الحروب قد عطلت طرق التجارة بين الشرق والغرب، فكان من الطبيعي، أن يتحول مركز الثقل الاقتصادي إلى جهة غربي شبه الجزيرة العربية، وكان لوقوع مكة في ملتقى الطرق المارة بين شرقي شبه الجزيرة وعالم البحر المتوسط، وبين إفريقيا السوداء وبلاد الشام أثر كبير في ازدهارها١.

ثم إن كثيرًا من رجال القبائل العربية التي كانت تفر من أواسط شبه الجزيرة، بسبب النزاع القبلي الذي استفحل في جهات نجد -كما رأينا في بحث مملكة كندة، وكما سنرى في بحث أيام العرب- كانوا يأتون إلى مكة ويستوطنون فيها، فتكاثر أهلها وازداد نشاطهم.

وكانت مكة فوق هذا مركزا دينيًا، يستقطب نفوس العرب، يحجون إلى كعبتها من جميع أرجاء شبه الجزيرة من قديم الزمن، وقد سميت "البيت العتيق" لقدمها، وكان العرب يعظمونها ويقسمون بها الأيمان، كقول زهير:

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ... رجال بنوه من قريش وجرهم

كما كان يرافق الطقوس الدينية التي تجري في مكة في شهور معلومة من السنة، بمناسبة الحج إلى الكعبة، نشاط تجاري مهم، إذ تقام الأسواق التجارية، وتدوم أكثر من خمسة أشهر على فترتين منفصلتين وفي أمكنة مختلفة، وكان في الحجاز شبكة واسعة منها، ويرافق البيع والشراء مظاهرات أدبية رائعة، إذ يتبارى الشعراء والخطباء في إلقاء القصائد والخطب ويتفاخرون. فاستطاعت قريش بذلك أن تفرض لغتها على سائر قبائل


١ Emile Dermenghem: Ibid. P. ٢٧.

<<  <   >  >>