وأما نتائج تلك الحروب فلا تختلف عن النتائج التي تنشأ عادة عن مثيلاتها من الحروب، كاستحكام الضعف في القبائل العربية، وإشاعة الفرقة فيما بينها، واستمرار تفكك العرب وإمعان الدول الأجنبية في التحكم بهم، وفرض نفوذها الاستعماري على أغلب مناطقهم القريبة منها، كالحيرة وجنوبي العراق، وحوران وجنوبي سورية، ومنطقة الخليج العربي وحتى اليمن البعيدة عنها.
على أن تلك الأيام وإن تكن دليلًا على عدم الشعور بالأمة الواحدة، بل بعصبية القبيلة، إلا أننا إذا نظرنا إليها من زاوية أخرى، ولم نسقط من حسابنا اقترانها بحركة التحالف النشيطة التي رافقت هذه الحروب الكثيفة، فإنه يكون من الظلم أن يتهم العرب بالفردية، والمجتمع العربي بالجمود والتشتت. فالواقع أن القبائل العربية كانت متصلة متداخلة، متحركة تمور بالحيوية. فلقد كان ثمة حركة نشيطة بين القبائل، فهي تلتقي وتتباعد، وتارة تفرقها الحروب والغارات والعداوات، وطورًا يؤلف بينها الحلف والجوار، ولم تكن الحروب الضارية التي كانت تنشب فيما بينها، إلا دليلا على مزيد من القوة الكامنة في نفوسها، ومن الحيوية والنشاط. ولقد أخذت حركة التحالف في الازدياد والاتساع قبيل ظهور الإسلام، وراحت القبائل تتكتل في مجامع كبيرة، وتضطرم شبه الجزيرة بحروب عنيفة بين أطراف متكتلة في أحلاف واسعة، يحاول كل من متزعميها فرض سيطرته ونفوذه على ما يجاوره من وحدات وابتلاعها، مما يدل على عدم استطاعة القبيلة العربية أن تعيش في مجالها الضيق, فهي بحاجة إلى من تؤاخيه من القبائل الأخرى، وتربط مصيرها بمصيره، والواقع أن هذا الاندفاع نحو التحالف والتجمع، قد ساير النهضة العربية التي بدت ملامحها على المجتمع العربي الجاهلي١ قبيل الإسلام، وتناولت شتى مظاهر حياته، إذ شملت السياسة والدين والفكر، فكانت تمهيدًا لظهور الإسلام ونهضته الرائعة الشاملة.
وبعد: أكرر ما أسلفت بأن هذه الأيام لا يمكن تصنيفها تصنيفًا يراعي تسلسل وقوعها زمنيا، إنما يمكن أن نعطي كشفًا عن أهمها بحسب الفئات التي اشتركت فيها. فنبدأ بما وقع منها بين مختلف قبائل القحطانية: