غير أن في أخلاق البداوة ما يخفف كثيرًا من مساوئ الغزو والسلب والظلم. فالبدوي ولا سيما العربي أقرب بطبيعته الفطرية إلى الخير، ومهما تمادى في السلب والعدوان تنافسًا على أسباب الحياة من كلأ ومرعى، فإن طبيعته التي فطرت على الجود والكرم تدفعه إلى موازنة الشر الناتج عن تلك المنافسة. فقد فرضت عليه حياة البادية نوعا من السلوك، جعل من الشهامة والأريحية، والنجدة وحب الضيافة، والعفو عند المقدرة، وإباء الضيم، والوفاء بالعهد، والأمانة، والدفاع عن الجار واللاجئ والمستغيث، طبعا أصيلا وفطريا فيه١، وهو بعيد عن المداراة والمصانعة؛ لأنها بعيدة عن الفطرة, قريبة من الرياء.
وقد اشتهر العرب بالكرم شهرة عظيمة، ولهم فيه ضروب شتى، وأصبحت سيرة بعضهم مضرب الأمثال؛ كحاتم الطائي، وكعب بن مامة الإيادي، وأوس بن حارثة الطائي، وهرم بن سنان، وعبد الله بن جدعان التميمي الملقب باسم "حاسي الذهب" وفيه ضرب المثل القائل: "أقرى من حاسي الذهب". وأجواد العرب وكرماؤهم كُثُرٌ يصعب حصرهم.
ويتجلى الكرم في نحر الجُزُر -مفردها: جَزُور، وهو ما يُجزر من النوق والغنم- وإطعام الضيوف والفقراء والمساكين، أو بموجز العبارة: أن يبذل المرء أكثر مما يأخذ. وكان من عادة العرب أن يشعلوا النيران في ربوات عالية؛ ليهتدي بها السائرون في الصحراء، ويتجهوا إلى المضارب المستعدة لاستضافتهم. ومما يؤثر عن حاتم الطائي قوله لعبد له:
أوقد فإن الليل ليل قرّ ... والريح يا واقد ريح صرّ
عل يرى نارك من يمرّ ... إن جلبتَ ضيفًا فأنت حرّ
وكان يحرص على ألا يأكل وحده، مخافة أن يوصم بالبخل بعد موته فيخاطب زوجته قائلًا:
أيا يابنة عبد الله وابنة مالك ... ويابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له ... أكيلًا فإني لست آكله وحدي