مبلغًا جعلهم يحكِّمون عقولهم في عبادتها. ونستطيع أن نقيم على ذلك دليلًا بمثال مما رواه ابن الكلبي, قال:"كان لطيء صنم يقال له "الفَلس" وله سادن يقال له "صيفي"، فأَطرد ناقة خلية لامرأة من كلب، كانت جارة لمالك بن كلثوم، وكان شريفًا، فانطلق بها حتى وقفها بفناء الفلس، وخرجت جارة مالك فأخبرته بذلك، فركب فرسا وتقلد رمحا وخرج في أثره، فأدركه وهو عند الفلس والناقة موقوفة عنده، فقال له: خل سبيل الناقة، قال: إنها لربك، فقال: خل سبيلها، قال: أتخفر إلهك؟ فبوأ له الرمح، فحل عقالها وانصرف بها مالك. وأقبل السادن على الفلس، وخاطبه محرضًا إياه على مالك:
يا رب, إن مالك بن كلثوم ... أخفرك اليوم بناب علكوم
وكنت قبل اليوم غير مشئوم
وكان عدي بن حاتم قد عتر يومئذ عند الفلس، وجلس إلى نفر معه يتحدثون بما صنع مالك. وفزع لذلك عدي وقال: انظروا ما يصيبه في يومه هذا، فمضت له أيام لم يصبه شيء, فرفض عدي عبادته وعبادة الأصنام وتنصر، فلم يزل كذلك حتى ظهر الإسلام فأسلم"١. ولم يكن هذا شأن عقلائهم فحسب، بل تجاوزهم الأمر إلى العامة. ومن الأمثلة التي رويت أنه كان لبني مالك صنم يسمى "سعدًا" بساحل جدة، وقد جاء رجل بإبله يبتغي البركة له ولها عنده، فلما أدناها منه، وكان عليه آثار دماء، نفرت وتفرقت، فغضب وتناول حجرا ورمى به الصنم قائلًا: لا بارك الله فيك، إلهًا أنفرت علي إبلي، ثم جمع إبله وانصرف قائلا:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا ... فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة ... من الأرض لا يُدعى لغي ولا رشد
ولما جاء امرؤ القيس يستقسم لدى "ذي الخلصة" مستشيرًا إياه في طلب الثأر