للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فإن صيغة غفر أصلها للمضى، والماضى لا يتعلق به الطلب، فالتعبير عنه بذلك يحصل به تفاؤل ومسرة، ولقصد التفاؤل سميت الفلاة مفازة، والعطشان ناهلا، واللديغ سليما، إلا أن هذه العلة قاصرة من صور التعبير بالخبر عن الإنشاء على الماضى، وقد يؤتى بصيغة الخبر لإظهار الحرص على وقوع المطلوب، وقد مر هذا فى صيغ الشرط كقولك: أحيا الله السنة، بمعنى الدعاء بإحيائها، والدعاء بصيغة الماضى إذا صدر من البليغ احتمل التفاؤل، واحتمل إظهار الحرص معا؛ لأنه قد يريدهما بخلاف غير البليغ فإنه لا يعلم ذلك، ولا يخلو هذا الكلام عن نظر كما سبق فى نظيره وقد يأتى الإنشاء بصيغة الخبر، كقول العبد للمولى إذا حول وجهه إليه: ينظر المولى إلىّ، فإنه أكثر تأدبا من قوله: انظر إلى، بصيغة الأمر، وإن كان الأمر يشترط فيه الاستعلاء ولا استعلاء هنا إلا أنه لما كان صيغة أمر اجتنب، وعلل السكاكى حسنه بأمر آخر وهو أن فيه كناية؛ لأنه ذكر اللازم وأراد الملزوم؛ لأن وقوع النظر لازم لقوله: ينظر، أى: لازم فى الغالب.

قلت: فيه نظر؛ لأنا إن جعلناه كناية كان خبرا لفظا ومعنى، وكان حقيقة وهو قد جعله إنشاء بصيغة الخبر وأفهم كلامه أنه مجاز فليتأمل، وأما بحمل المخاطب على المطلوب منه، أى: ترغيبه فيه بأن يكون المخاطب يرغب فى تصديق الطالب، فإذا قال له: أنت تحسن إلى غدا، وقصد أن لا يكذبه أحسن إليه، فإن قلت: الفرض أنه إنشاء فتكذيبه لا يحصل أبدا، سواء أحسن إليه أم لم يحسن. قلت: وإن كان إنشاء إلا أن صيغته صيغة الخبر، فربما توهم السامع

أنه خبر فكذبه، والأحسن أن يقول: يجب أن لا يتوهم كذبه من لم يفهم إرادة الإنشاء ومن مجئ الإنشاء بلفظ الخبر قوله تعالى:

وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ (١) وقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (٢) وقيل: إنه نهى مجزوم، ولكن ضمت السين إتباعا للضمير كقوله صلّى الله عليه وسلّم:" إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" (٣). وقال القاضى أبو بكر فى كل ما يقال: إنه خبر بمعنى الإنشاء: إنه باق على خبريته، ولا يلزم الخلف بالنسبة إلى العصاة فإنه خبر عن الحكم الشرعى، وفيما قاله بحث محله أصول الفقه.

وأما استعمال صيغة الإنشاء للخبر فقد تقدم كثير منه فى صيغة أفعل.


(١) سورة البقرة: ٢٣٣.
(٢) سورة الواقعة: ٧٩.
(٣) الحديث أخرجه البخارى فى" جزاء الصيد"، باب إذا أهدى المحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل، (٤/ ٣٨)، (ح ٨٢٥)، وفى غير موضع، ومسلم فى" الحج"، (ح ١١٩٣) من حديث الصعب بن جثامة.

<<  <  ج: ص:  >  >>