للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

فلا يكون كناية عن المسرة، بل كناية عن البخل، كقول الشاعر - وهو أبو عطاء - يرثى ابن هبيرة:

ألا إنّ عينا لم تجد يوم واسط ... عليك بجارى جمعها لجمود (١)

ويمتنع أن يراد بالجمود هنا عدم البكاء مع عظم الحزن؛ لأنه يتحد معناه مع قوله:

(لم تجد) فكأنه قال: إن عينا لم تجد لم تجد، وأيضا المعنى على أنه يريد أن كل أحد حزين وبعض العيون بخلت، فهو أمدح من قوله: إن من الناس من لم يحزن، ولو كان الجمود عدم البكاء مطلقا لجاز أن يدعى به، فيقال: لا زالت عينك جامدة، كما يقال:

لا أبكى الله عينك، وهو باطل.

قلت: وفيه لطيفة؛ لأن الجمود بالحقيقة إنما يكون للمائع، ووصف العين بالجمود، إما على إرادة دمعها، أو إرادتها على سبيل الاستعارة عن الدمع، فلا بد أن يتخيل أن الدمع موجود فى العين، ولكن حصل له جمود منعه من الانسكاب، وذلك لا يتأتى فى حال السرور؛ لأن المعدوم لا يوصف بالجمود.

واعلم أن هذا الاعتراض فيه نظر؛ لأن استعمال الجمود فى هذا البخل إن لم يكن جائزا فليس هذا كلاما غير فصيح، بل هو غير عربى، وإن كان يستعمل فمن أين جاء التعقيد؟ ثم عليه من الاعتراض من كون الإخلال بالفصاحة هنا ليس فى الكلام ما سبق.

واعلم أن المبرد فى الكامل فسر هذا البيت بغير هذا، فقال: هذا رجل فقير يبعد عن أهله ويسافر؛ ليحصل ما يوجب لهم القرب، وتسكب عيناه الدموع فى بعده عنهم لتجمد عند وصوله لهم، وأنشد:

تقول سليمى لو أقمت بأرضنا ... ولم تدر أنّى للمقام أطوّف (٢)

(تنبيه): يجوز فى قوله: (وتسكب) النصب عطفا على بعد من باب:


(١) البيت من البسيط وهو لأبى عطاء السندى فى رثاء ابن هبيرة، وهو فى الإيضاح ص ٨، وشرح الحماسة للتبريزى ٢/ ١٥١، ودلائل الإعجاز ص ٢٦٩، والإشارات والتنبيهات ص ١٢.
(٢) البيت من الطويل، وهو لعروة بن الورد فى الكامل ١/ ١٥٥ ط. المكتبة العصرية، وشرح عقود الجمان بلا نسبة ١/ ١٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>