لا يتخيل أن ذلك جمع بين حقيقة ومجاز ولا بين حقيقتين؛ لأن التعدد هنا ليس فى إرادة الاستعمال بل فى إرادة الإفادة، واللفظ لم يستعمل إلا فى موضوعه، وقد يستعمل اللفظ فى معنى ويقصد به إفادة، معان كثيرة قال:(فظهر أنها تخالف المجاز من جهة إرادة المعنى) أى من جهة جواز إرادة إفادة المعنى الذى هو موضوع اللفظ مع إرادة لازمه. قلت: هذا يقتضى أن الكناية أريد بها اللازم والملزوم معا، وهو مخالف لقوله قبيله:" إن الكناية أريد فيها اللازم مع جواز إرادة الموضوع"، وما ذكره فيما سبق هو الصواب، والذى ذكره هنا ليس بشئ، وسيأتى ما يوافقه فى آخر الباب، قال:
(بخلاف إرادة المجاز) فإن إرادته تنافى إرادة الحقيقة لأن المجاز ملزوم قرينة معاندة لإرادة الحقيقة وملزوم معاند الشئ معاند لذلك الشئ، كذا قال المصنف. قلت: لا يمتنع استعمال اللفظ فى حقيقته ومجازه. وإلى ذلك ذهب كثير منهم الشافعى، والقاضيان: أبو بكر وعبد الجبار، وأبو على الجبائى، والغزالى، وأبو الحسين، وسائر المعتزلة فمنهم من قال:" يصح مجازا" ومنهم من قال:" يصح حقيقة" وما ذكره من أن القرينة معاندة لإرادة الحقيقة إن أراد من إرادتها فقط فمسلم، ولا ينتج مقصوده، وإن أراد أن القرينة مانعة من أن تراد الحقيقة مطلقا، فممنوع بل القرينة تدل على إرادة المجاز ولا تمنع إرادة الحقيقة معه، وليس من شرط القرينة أن تكون ذكر وصف لا يصلح معه إرادة الحقيقة، فقد تكون قرينة حالية لإرادة المجاز لا لنفى الحقيقة. ثم إذا جوزنا الجمع بين
الحقيقة والمجاز فقلنا: إنه مجاز فلا بد له من قرينة تصرف إلى الجمع بينهما، وبذلك يتضح عدم المنافاة، ثم نقول: الكناية - أيضا - وإن كانت حقيقة - لا بد لها من قرينة تصرف إليها كما أن المجاز لا بد له من قرينة، فلم جعلت القرينة الصارفة إلى المجاز مانعة من إرادة الحقيقة، ولم تجعل القرينة الصارفة إلى الكناية مانعة من إرادة معنى الكلمة؟ ومما يدل على أن الكناية لا بد لها من قرينة كلام المصنف فى آخر هذا الفصل، يدل عليه أيضا قول الجرجانى فى دلائل الإعجاز:
" المكنى عنه لا يعلم من اللفظ بل من غيره ألا ترى أن كثير الرماد لم يعلم منه الكرم من اللفظ؛ بل لأنه كلام جاء عندهم فى المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرماد، وكذلك و" لا أبتاع إلا قريبة للأجل (١) " لا معنى كثير رماده فهذا الكلام صريح فى أن
(١) فى دلائل الإعجاز ص: ٤٣١: ولا أبتاع إلا قريبة الأجل وهو الصواب.