وكان المتخصصون في القرون الأولى يعرفون الرواة وأحوالهم والأسانيد وشروط صحتها، فكان بوسعهم الحكم على الروايات وتمييزها، لكن هذه المعرفة بالرجال والأسانيد لم تعد من أسس الثقافة في القرون المتأخرة، بل يندر أن تجد من يهتم بذلك من مثقفي هذا العصر، لذلك جاءت كتابات المعاصرين من الكتاب والمؤرخين خلواً من تمييز الروايات وفق قواعد مصطلح الحديث، ولكن كبار المؤرخين في عصرنا يترسمون مناهج (النقد التاريخي) الذي ظهر ونما في الغرب خلال القرنين الأخيرين، وهم يتعاملون مع روايات السيرة من خلال هذه المناهج النقدية التي وضعت بعد استقراء الكتابات التاريخية الغربية، ولم تكيف للتعامل مع الرواية التاريخية الإسلامية التي لها سماتها الخاصة والتي من أبرزها وجود سلاسل السند التي تتقدم الرواية عادة، والتي يعتمد منهج المحدثين عليها بالدرجة الأولى في الحكم على الرواية بالصحة أو عدمها. مما أدى إلى ظهور مكتبة ضخمة مَعْنِيَّة بتراجم الرواة وبيان أحوالهم وإمكان التقائهم ببعضهم أو عدمه، والحكم عليهم من خلال استقراء مروياتهم بالإضافة إلى رأي معاصريهم فيهم، وهذه الثورة الهائلة من المعلومات والمكتبة النفيسة ظلت بمعزل عن الإفادة منها في الدراسات التاريخية المتعلقة بتاريخ الإسلام ومنها دراسات السيرة. وما أعظمها من خسارة أن نئد جهود المئات من كبار العلماء الذين قدموا لنا هذه الخدمة الخاصة بالتعامل مع "الرواية التاريخية الإسلامية". بسبب جهلنا بقيمتها والتزامنا الحرفي بمنهج النقد التاريخي الغربي. (Historical Method)
وهنا تلزم الإشارة إلى أن إهمال نقد الأسانيد في الرواية التاريخية الإسلامية والاكتفاء بنقد المتون يوقعنا في حيرة أمام الروايات الكثيرة المتعارضة عندما تكون متونها جميعاً متفقة مع المقاييس والقواعد النقدية العقلية، وهذا يحدث مع كثير من تفاصيل الأحداث التأريخية، وخاصة المتعلقة بتاريخ صدر الإسلام. إن ذلك يحتم علي الباحث استعمال منهج المحدثين في نقد الأسانيد وإلا فإنه سيقف أمام العديد من المشاكل دون حل أو ترجيح.