للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يحسن القراءة والكتابة، وعاش في بيئة خالية من الدراسات الفلسفية والطبيعية المعقدة، كالتي عرفها اليونان والفرس والهنود ومع ذلك فإن تعاليمه رسمت طريق السعادة والفلاح، وأثرت في مئات الملايين من البشر الذين اتبعوها، ونظمت حياتهم الخاصة والعامة, وحكمت اجتماعهم واقتصادهم وسياستهم وأخلاقهم وقيمهم قرونا طويلة، وأثمرت حضارة عالمية سامقة كان لها دور كبير في الحضارة العالمية، ولا شك أن هذا ما كان ليحدث لولا الوحي الإلهي. وكان تكليف الرسل بحمل الوحي الإلهي وتبليغه مما يجر عليهم الأخطار، لأن الرسالات التي يدعون إليها تقتضي أحداث تغيير كبير في أطر الحياة العقدية والاجتماعية، فكانوا يلقون مقاومة كبيرة من أصحاب النفوذ والمصالح، ومن الجمهور الذي تنتشر فيه العقائد المخالفة لرسالاتهم، وهذا عرَّضهم للأخطار. ولم يكن بوسع الأنبياء أن يتخذوا مواقف وسطاً أو حلولاً توفيقية، لأن الرسالة ليست نابعة من اجتهادهم فيغيروا ويبدلوا، بل لابد لهم من الالتزام بنص الوحي الإلهي وبمضامينه، قال تعالى في حق سيد المرسلين {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} (١). فلابد للرسول إذاً من التزام أمانة التبليغ مهما كابد من البلاء والمقاومة ومن هنا جاءت محن الأنبياء. فهذا نوح عليه السلام أول رسول إلى الناس - كما أن آدم أول نبي - عمر طويلا، فدعا قومه ليلا ونهارا سرا وجهرا إلى توحيد الله، فما استجاب له بعد إقامته فيهم ودعوتهم إلا قليل، هم الذين نجوا من الغرق. قال تعالى {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (٢) وقد اتهمه قومه بالسفه والضلال والجنون وكثرة الجدل بالافتراء على الله، وهددوه بالرجم، وقابلوه بالسخرية والتهكم، وهو يقابل ذلك بالصبر والاستمرار في دعوتهم حتى أدرك أنهم لا يستجيبون -بعد أن دعاهم قرونا-، فدعا عليهم كما يحكي القرآن


(١) الحاقة:٤٦.
(٢) هود:٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>