الأسانيد وانتقدنا في الرجال، وإذا روينا في الفضائل والثواب والعقاب سهلنا في الأسانيد وتسامحنا في الرجال" (١).
إن السيرة بحاجة إلى تمحيص أسانيدها ومتونها تبعاً لقواعد المحدثين في نقد الحديث، ومما يعين على ذلك أن سائر مصادر السيرة المهمة قد أوردت الروايات تتقدمها الأسانيد، وأن معظم رواة السير من المحدثين الذين ترجمت لهم كتب الرجال وأوضحت حالهم وبينت ما قيل فيهم من جرح وتعديل.
إن عدم استعمال البعض لهذا المنهج يرجع إلى ما في ذلك من صعوبة وجهد في معرفة الرجال وأحوالهم والتفتيش عنهم، وفي إتقان علوم الحديث والتمرس على تطبيقها في النقد التاريخي، لكن آخرين قد يتجاهلون هذا المنهج ويغمطونه حقه بالتقليل من جدواه والتشكيك من قيمته وتوسيع بعض المآخذ عليه.
إن هؤلاء - لا شك - يجهلون حقيقته - وقد أوضح أسد رستم - وهو رجل نصراني لا يتعصب لدين - قيمة مناهج المحدثين في النقد مثبتاً لهم سابقتهم وإبداعهم، وذلك في كتابه (مصطلح التاريخ)، إنه لا بد من ابتاع هذا المنهج في نقد دراسة السيرة، بل دراسة التاريخ الإسلامي عامة، فلئن كان التدقيق في حقل السيرة أهم وأولى لتعلقها بالعقيدة والشريعة وصياغة الشخصية الإسلامية، فإن الحاجة إلى استعمال هذا المنهج في دراسة تاريخ الراشدين والأمويين والعباسيين شديدة لتأثير الأهواء على الإخباريين واختلاط الحق بالباطل اختلاطاً يصعب تمييزه إلا على المتضلعين بالرجال ومعرفة جرحهم وتعديلهم وميولهم وعقائدهم. إن كتب التاريخ مزيج من مقتطفات أوردها إخباريون ذوو اتجاهات سياسية ومذهبية متباينة، فلو أريد إعطاء صورة عن العصر الأموي مثلاً من خلال مرويات أبي مخنف فقط، فإنها تكون مغايرة كثيراً للصورة التي تكونها مرويات عوانة ابن الحكم أو أبي اليقظان النسابة وحدها.