منه أنه أراد بالمبعوث الفقهاء خاصة كما ذهب إليه بعض العلماء، فإن انتفاع الأمة بغيرهم كثير مثل أولي الأمر وأصحاب الحديث والقراء والوعاظ وأصحاب الطبقات من الزهاد، فإن كل قوم ينتفعون بفن لا ينتفع به الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي تحقن به الدماء، ويتمكن من إقامة قوانين الشرع وهذه وظيفة أولي الأمر، وكذلك أصحاب الحديث ينتفعون بضبط الأحاديث التي من أدلة الشرع، والقراء ينتفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينتفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا، لكن الذي ينبغي أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلاً معروفًا مشهورًا مشارًا إليه في كل فن من هذه الفنون، فإذا حمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى وأبعد عن التهمة وأشبه بالحكمة، فإذا ذهبنا إلى تخصيص القول على أحد المذاهب وأولنا الحديث عليه بقيت المذاهب الأخرى خارجة عن احتمال الحديث لها، وكان ذلك طعنًا فيها فالأحسن أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعة من الأكابر المشهورين على رأس كل مائة سنة يجددون للناس دينهم ويحفظون مذاهبهم.
ونحن نذكر الآن المذاهب المشهورة في الإسلام التي عليها مدار المسلمين في أقطار الأرض وهي مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد ومذهب الأمامية، ولم يكن قبل ذلك إلا المائة الأولى وكان على رأسها من أولي الأمر عمر بن عبد العزيز، ويكفي الأمة في هذه المائة وجوده خاصة فإنه فعل في الإسلام ما ليس بخاف، وكان من الفقهاء بالمدينة محمد بن علي الباقر، والقاسم بن محمد ابن أبي بكر الصديق، وسالم بن عبد الله ابن عمر، وكان بمكة منهم مجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعطاء بن أبي رباح، وكان باليمن طاووس، وبالشام مكحول، وبالكوفة عامر بن شراحيل الشعبي، وبالبصرة الحسن البصري، ومحمد بن سيرين، وأما القراء على رأس المائة الأولى، فكان القائم بها عبد الله ابن كثير، وأما المحدثون محمد بن شهاب الزهري وجماعة كثيرة مشهورون من التابعين وتابعي التابعين.
وأما من كان على رأس المائة الثانية فمن أولي الأمر المأمون بن الرشيد، ومن الفقهاء الشافعي، والحسن بن زياد اللؤلؤي من أصحاب أبي حنيفة، وأشهب ابن عبد العزيز من أصحاب مالك، وأما أحمد فلم يكن يومئذ مشهورًا فإنه مات سنة إحدى وأربعين ومائتين، ومن الأمامية علي بن موسى الرضي، ومن القراء يعقوب