القواعد وذلك على الناس عزيز، فكانوا بحاجة إلى تدوين كتاب يجمع صحاح الآثار في كل نوع من أنواع التشريع، ويدحض ما عداها، فكان محمد بن إسماعيل البخاري للأمة شمس هداها؛ إذ ألف «الجامع الصحيح» فاطمأنت نفوس المؤمنين، وألغوا كل معروف بالوضع وكل ظنين.
كان ابتداء ظهور عمل محمد بن إسماعيل البخاري في مبتدأ القرن الثالث من يوم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقالته تلك، أعني في حدود سنة (٢١١ هـ) وقد كان هذا التجديد لناحية من الرثاثة في الدين، وهي رثاثة التساهل في الحديث من حيث جزئيات الأحاديث لا من حيث الأصل الكلي، فذلك وجه غير الذي لمالك وإن جرى على أصل مالك؛ لأن البخاري جدد طريقة تمييز أعيان الأحاديث، ومالكتا جدد طريقة تأصيل قواعد الأخذ للسنة، وتخريج الأحاديث التي هي أصول للتفقه في الدين من صحيح الآثار، فبعد البخاري كان مجدد أمر الأمة على رأس المائة الثالثة وكان خليفة المسلمين في سنة (٢١٠ هـ) المأمون العباسي وكانت حالة المسلمين معه في صلاح واستقامة.
هكذا مضى المسلمون آمنين في طريق نقل الآثار الشرعية، ومسالك التفقه في الدين والتفريع فيه، فتميز الحق من الباطل، واستبانت السنن من الابتداع، فكان أهل السنة وأهل الحق غالبين من يغالبهم من أهل الأهواء والبدع الذميمة، وكان العلم الغالب على الأمة في تلك القرون هو النقل والآثار، ولم يكونوا بحاجة إلى تجديد في علم الفقه ولا في علم العقائد.
وفيما هم على تلك الحال من الهدى؛ إذ نبعث فيهم فئات يخوضون في أصول الدين خوضًا يشوب الأدلة الشرعية بالأصول الفلسفية، ويعلنون أن الحق هو الذي يجب أن يكون رائد المسلم في أصول الاعتقاد، ويردون الأدلة السمعية التي تخالف الأصول التي أصلوها ردًا بالتأويل أو الإبطال، وكانوا قد درسوا ما ترجم من علوم الأوائل، وأصبحت مبثوثة بينهم وبين أتباعهم، وصاروا يتطاولون على مخالفيهم بأنهم لا ثقة بعلومهم؛ لعدم ارتياض عقولهم بالعلوم الحقيقية، فدخلت بذلك على الأمة فتن في عقائدها كانت أولاها فتنة القدر، ثم فتنة خلق القرآن، وتبعتها فتنة الاستثناء في الإيمان، وفتنة صحة إيمان المقلد، وفتنة خلق الأفعال وغيرها.
فوجم أهل السنة وجمة عضوا عندها على اعتقادهم بالنواجذ فرث الإسلام من