وقد اتفق العلماء من أهل عصره على تأويل ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بروايات متقاربة في سنن الترمذي وكتاب النسائي، ومسند أحمد بن حنبل، ومستدرك الحاكم، ومسند الشافعي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم فلا يجدون أعلم من عالم المدينة». إنه إشارة إلى مالك بن أنس، قال بذلك سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن معين، وابن المديني، وجمع كثير.
ثم إن ما بلغه من توقير خلفاء الدولة العباسية، وبرهم إياه، ووقوفهم عند نصائحه مع ما كان له من الشدة على المتساهلين في الحديث وتلقي السنة، قد أعان على نفاذ أصوله في تحمل الحديث، ومكنه من التقريع والتأديب لكل من يبلغه من المتساهلين والمبتدعين وأهل الأهواء.
وحسبك أن المنصور أبا جعفر قد هم همًا قويًا على أن يأمر الناس في أقطار الإسلام باتباع ما في الموطأ دون غيره، وقد انثاب الناس على الأخذ عن مالك وقد اختص بأشياء لم تتأت لغيره، وهي التعمير وكثرة الآخذين عنه، وتفرقهم في سائر الأمصار، وإعلانه بطريقته وتزييف الطرائق المخالفة لها، واجتماع إمامة الفقه والحديث فيه، وهذه صفات لم يشاركه فيها غيره ممن كان يدانيه في صحة الرواية مثل: يحيى القطان، وسفيان بن عيينة، وشعبة بن الحجاج، وعبد الرحمن ابن مهدي، مع شدته في متابعة أصوله لا ينحرف عنها قيد أنملة.
ولأجل تخليد عمله، وتخطيط طريقه، ألف كتاب الموطأ، وهو أول كتاب ألف في الإسلام، فلذلك كله تعين عندي أن يكون مالك من مجددي أول المائة الثانية.
وأرى أنه لم يشاركه أحد في تجديد أمر الدين من ناحية لحقت الدين منها رثاثة؛ فطريقة مالك رحمه الله هي التي كانت الطريقة المثلى للتمييز بين الصحيح والسقيم من الآثار؛ وقد ذهب بها جفاء ما طرأ على الرواية من الخلل، وقد أصبحت تلك الطريقة مسلوكة إلى يومنا هذا، فهو مجدد طريقة وأصل عام في التحمل.
وما فرغ المسلمون من علم قواعد التحمل، ومعرفة المقبولين والضعفاء والمدلسين حتى طفحت الروايات عليهم من كل مكان، فمن صحيح وعليل، وأصيل ودخيل، فأصبح الناس في حيرة في مقام التمييز؛ لاحتياجه إلى علاج بوسائل