معناه الذي أرى: أن هذا الحديث مسوق للبشارة والتحذير معًا وأنه جاء على سنن البلاغة النبوية بإيجاز بديع، وأنه على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا ربه دعوة استجيبت له، فأراد إدخال السرور بها على أمته ليعلموا كرامتهم على الله ويزدادوا معرفة بقدر رسولهم، وقد دل على أن الدعوة مستجابة قوله في آخر الحديث، فيما يرويه عن ربه:«وإني أعطيت لأمتك أن لا أسلط عليهم عدوًّا ... » إلخ، وفيه تحذير مما يخشى وقوعه بين المسلمين من التقاتل، وله نظائر في التحذير كثيرة، منها قوله - صلى الله عليه وسلم -: «فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، والتسلط في كلام العرب هو الغلب، قال الله تعالى:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ}[النساء: ٩٠]؛ واشتقاقه من السلاطة وهي الشدة يقال: فلان سليط اللسان، أي خبيث القول، ومنه اشتقت السلطة والسلطان، وقد أريد بالتسليط هنا الشدة وهو تسليط الإهلاك والاستئصال بدليل مجيء فاء التسبب الجعلي عقبة في قوله: فيستبيح بيضتهم، فيعود الكلام إلى معنى: وأن لا يستبيح عدوهم بيضتهم، والنكتة في ابتداء الدعاء بنفي التسليط ثم تعقيبه بنفي الاستباحة هي التأدب بإسناد الفعل المطلوب إلى الله تعالى، وأن العدو إذا لم يسلطه الله لا يستطيع استباحة بيضة المسلمين، والسين والتاء في الاستباحة للصيرورة مثل قولهم استقام الأمر أي صار قيمًا، فالمعنى: فتصير بيضة المسلمين مباحة لهذا العدو المسلط، والإباحة في الأصل المكنة، قال الشاعر:
أبحنا حيهم قتلاً وأسرا ... خلا الشمطاء والطفل الصغير
وضدها الحرمة وهي المنع، ومنه وصف البلد بالحرام، ومعنى صيرورة البيضة مباحة أن لا يبقى لها من القوة والعزة ما يمنع العدو من تناولها والتمكن منها، والبيضة هنا الجامعة، وأصل البيضة لَامة الحرب التي تلبس على الرأس لتقيه ضرب السيوف مثل المغفر، ثم أطلقت على العزة مجازًا مرسلاً؛ لأنها سبب العزة في الحرب للابسها أن يكون آمنًا من إتلاف نفسه، ثم أطلقت على الأمر الذي تجتمع عليه الأمة وبه قوامها وبقاؤها، ومن ذلك قول العلماء: من شرط الخليفة أن يكون قادرًا على حماية البيضة.
والجامعة في اعتبار الإسلام هي جامعة الدين، فلا التفات إلى القبائل والأحياء ولا إلى الأوطان والأمم، لكن الجامعة الإسلامية لما كانت حاصلة في جماعة المسلمين، وكانت جماعة المسلمين لا غنى لها عن الاستقرار في مكان، فوطن