كفر، ولكن المسلمين الذين كانوا بها حلُّو في ديار أخرى وانضموا إلى جامعتهم، فلم يكن ذلك استئصالاً لهم بله أن يكون استئصالاً لسائر الأمة وتمزيق جامعتها وسلطانها، وقد اقتتلت فرق المسلمين غير مرة قتالاً معتادًا أو أشد من المعتاد، وحسبك منه قتال الخوارج الذي دام سنين طويلة ولم يفض إلى تفانيهم واستئصال بعضهم بعضًا، وعلى هذا فقوله في حكاية جواب الله تعالى:«حتى يكون بعضهم يُهلك بعضًا ويَسْبي بعضهم بعضًا» غاية لانتفاء تسليط بعضهم على بعض ليست من جنس تسليط العدو عليهم، وشرط المعطوف بـ (حَتَّى) أن يكون بعضًا من المعطوف عليه، فتعين أن يكون في الكلام إيجاز حذف دل على عظم فضل الله تعالى على رسوله؛ إذ استجاب له بأكثر مما سأله؛ فإنه سأله أن لا يسلط عليهم عدوًّا من غيرهم يستبيح بيضتهم، فاستجاب له بذلك وبأن لا يسلط عليهم من أنفسهم أيضًا مسلطًا في كون من الأكوان، وحال من الأحوال إلى الغاية التي يكون بعضهم فيها يهلك بعضًا، ويسبي بعضهم بعضًا. وهذا الأسلوب يشبه أن يكون من تأكيد الشيء بما يشبه ضده إذ يوهم بظاهره أن تلك الغاية نهاية لقوله:«وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم»، وهي في الحقيقة ليست غاية لذلك، فإن ذلك منتفٍ أبدًا إلى غير غاية، وإنما هو غاية لمحذوف وهو ما أشرت إليه آنفًا.
ويجوز أن يكون المراد من قوله: حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ... إلخ، غاية لنفي تسليط العدو من غير تقييد كون العدو من غير أنفسهم، أي تسليط بعض المسلمين على بعض تسليطًا يستبيح بيضتهم ويفنى جماعتهم، فيكون ذلك إخبارًا عن غاية من الزمان تحصل فيه فتن عظيمة فيرتد فريق من المسلمين عن الإسلام ويكون مساويًا للفريق الباقين على الإسلام في العدد وتزول منهم حرمة أحكامه فيقتل بعضهم بعضًا قتل استئصال حتى لا يبقى من يقول: الله، الله، كما ورد في الحديث:«لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق»؛ وذلك بأن يسلط بعض المسلمين على بعض ويسلب الغالبين رشدهم فيهلكوا البقية نظير ما سلب الله (نيرون) سلطان الرومان من العقل حتى صار يلذ له إزهاق نفوس قومه وإحراق عاصمة سلطانه فيكون هؤلاء قد بدلوا نعمة الله كفرًا وأحلوا قومهم دار البوار وهي غاية بعيدة المدى، ما بقيت في المسلمين مسكة من هدى، نسأل الله أن يعيذ الأمة من هذه الحالة ببركة رسولها - صلى الله عليه وسلم -.