بحيث يشهد له الناس بالعلم ويظن بنفسه الإصابة فيما يسأل عنه إلا احتمالاً مرجوحًا، قال مالك رحمه الله: لا ينبغي للعالم أن يفتي حتى يراه الناس أهلاً لذلك، ويرى هو نفسه أهلاً لذلك.
ومنها: أن لا يكون الجواب عن المسألة يثير فتنة لقصور الناس عن إدراك أمثالها، ولم يزل الأئمة يجتنبون الخوض في دقائق العلم بين العامة، ففي صحيح البخاري عن عبد الله بن عباس، عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال له: لو رأيت رجلاً أتى عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها، فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول: لو قد مات عمر لأبايعن فلانًا، فما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت. فغضب عمر، ثم قال: إني لقائم إن شاء الله العشية في الناس فمحذرهم، فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس، وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة فيطيروها عنك كل مطير، وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها، فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار السنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنًا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعوها على مواضعها، فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة أ. هـ
وقد حدثت في خلافة المأمون فتنة الخوض في أن القرآن مخلوق، وألقيت الأسئلة على كثير من أهل العلم، فكان منهم من أبي الجواب، ومن هؤلاء الإمام أحمد ابن حنبل، وقد ضرب ليجيب فأبى الجواب، وما كان ذلك جهلاً منه بالفصل بين الموصوف بالمخلوق والموصوف بالقديم، ولكنه علم أن المقصود الفتنة ليتخذوا كلامه وسيلة لتأييد البدعة، ولما دخل محمد بن إسماعيل البخاري لنيسابور سألوه عن رأيه في القرآن أهو مخلوق؟ فأبى أن يجيب ثلاثًا، وقال: الامتحان بدعة، ثم لما ألحوا عليه أجاب بكلام موجه، فإبايته الجواب ابتداء لا تعد من كتم العلم المنهي عنه؛ لأنه علم أن المقصود الفتنة والتشغيب، وقد جاء رجل يسأل مالك بن أنس رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥)} [طه: ٥]، فقال له: السؤال عن هذا بدعة ولا أراك إلا صاحب بدعة، وأمر بإخراجه من مجلسه فأخرجوه معنفًا.
وفي البخاري سأل الحجاج أنس بن مالك عن أشد عقوبة عاقبها النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدث أنس بحديث العرنين الذين ارتدوا وقتلوا راعي إبل النبي ... فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم، فبلغ ذلك الحسن البصري، فقال الحسن: وددت أنه