ومعنى كلام سيبويه - رحمه الله - أن هذه الأحرف سماعية، وأنّهم لم يتجاوزوا بها ما ذكر عنهم، وأمّا حرف "استنقأت" فليس من المنصوص عليه عنهم. فإن قيل: ألم يكن رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - مكيًّا؟ وكيف ترد ما صح عنه؟ فالجواب: بلى، كان رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - عربيًّا مكيًّا، إِلَّا أنّه قد ورد عنه فيما أخرجه الحاكم في "المستدرك"، وقال: صحيح على شرط الشيخين - من أن أعرابيًّا قال له: يا نبيء اللَّه، فأنكره عليه وقال: "لست بنبيء الله، فإنّما أنا نبي اللَّه" وقال: "إنا معشر قريش لا ننبر". وهذا إن صح عنه فهو قاضٍ بأن هذه اللفظة هي ممّن دون النّبيّ - صلّى الله عليه وسلم -. وأمّا أنَّا نرد ما صح عنه، فإنا إنّما رددنا أن تكون هذه اللفظة بهذا الضبط من كلامه، سيما ومدار الحديث على عبد الله بن محمّد بن عقيل بن أبي طالب، وهو مختلف فيه، وحديثه لا ينزل عن مرتبة الحسن، وليس مثل هذا تقوم به الحجة على ما نحن بصدده، سيما وقد اختلف عليه فيه، فالرواية عند الدارقطني بـ "استنقيت"، فلا أقل من أن نعضد بها ما ذهبنا إليه من أن هذا الحرف ممّا لا ينطق به أهل مكّة، بل غاية المقال أن عبد الله هذا أخطأ فيه أو وقع الخطأ ممّن دونه. وقد يقول قائل: عبد اللَّه هذا ثقة، ثمّ هو بعد هذا قرشي الأصل وإن كان مدني المنشأ والوفاة. فالجواب: أن قولنا في الراوي: "ثقة" لا يحمل في مضمونه الضبط والتحري، يعرف هذا من خبر صنعة الجرح والتعديل وكلام الأئمة، وما نزل رجال الحسن عن مرتبة الصّحيح إِلَّا لخفة الضبط. وأمّا قول ابن عبد البرّ في عبد الله هذا: "هو أوثق من كلّ من تكلم فيه". فنحن لم نطعن على الرَّجل في عدالة ولا دين، وإنّما كلّ ما في الأمر توقفنا في صحة رواية عنه خالفت رواية أخرى صحيحة في اللُّغة، مع عدم ترك الحكم الفقهي وتعطيله، سيما وقد خلت بعض روايات الحديث من اللفظة أصلًا. نعم لو كان رجال الرِّواية عدولًا متقنين في غاية الضبط لقطعنا حينئذٍ - قاضين بغلبة الظن - بصحة هذا اللّفظ وإن خالف كلام أهل العربيّة؛ ثقة بنقلهم وحفاظًا للسنن، ونزولًا على قول الشّافعيّ - رضي الله عنه-: "ولا يحيط باللُّغة إِلَّا نبي". وأمّا قول القاري: "فيكون جرأة عظيمة من صاحب "المغرب" بالنسبة إلى العدول الضابطين الحافظين" فأين الضابطون الحافظون؟ ! وهل كلّ ما صح إسنادًا صح متنًا؟ وما حديث السبع الأراضين عنا ببعيد (! ! ). وأمّا ما نقل عن الفراء من قوله: "ربما خرجت به فصاحتهم .. إلخ"، ففيه نظر من وجوه: الأوّل: أن قوله: "ربما" يفيد التقليل، وأنّها ليست عادتهم. الثّاني: أن قوله: "أن يهمزوا ما ليس بمهموز" يفيد الإطلاق، وإنّما هو مقيد بما سمع. الثّالث: أنّه معارض يقول سيبويه المتقدم، بل ما ورد عنه هو في قول المرأة الّتي من العرب: "رثأت زوجي بأبيات" قال: "وهذا من المرأة على التوهم؛ لأنّها رأتهم يقولون: رثأت اللبن، فظنت أن المرثية منها". يعني أخطأت! ! .