الثَّالِثُ: أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى التَّكْرَارِ أَحْوَطُ؛ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيهِ؛ لِقَوْلِهِ -عَلَيهِ السَّلَامُ-: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ، إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ".
الْجَوَابُ عَنِ الأَوَّلِ مِن وُجُوهٍ:
الأَوَّلُ: أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي التَّرْكَ الْمُسْتَمِرَّ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ بِالاتِّفَاقِ، وَالأَمْرُ لَا يُوجِبُ الفِعْلَ المُسْتَمِرَّ فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّهْيَ مَنْعٌ مِنْ تَكْوينِ المَاهِيَّةِ، وَالامْتِنَاعُ عَنْهَا فِي الْوُجُودِ لَا يَتَحَقَّقُ إلا بِالامْتِنَاعِ عَنْ جَمِيعِ أَجْزَاءِ الزَّمَانِ.
أَمَّا الأَمْرُ: فَهُوَ حَمْلُ المُكَلَّفِ عَلَى إِدْخَالِ الماهِيَّةِ فِي الْوُجُودِ، وَذلِكَ يَكْفِي فِي العَمَلِ بِهِ إِدْخَالُهُا فِي الْوُجُودِ مَرَّةً وَاحِدَةً.
الثَّالِثُ: أَنَّ الأَمْرَ وَالنَّهْيَ، يَجْرِيَانِ مَجْرَى الإِيجَابِ وَالسَّلْبِ، فَكَمَا أَنَّ السَّالِبَةَ الْكُلِّيَّةَ الدَّائِمَةَ يَكفِي فِي ارْتِفَاعِهَا حُصُولُ الْمُوجَبَةِ الْجَزئِيَّةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ؛ فَكَذلِكَ النَّهْيُ كَالسَّالِبَةِ الكُلِّيَّةِ الدَّائِمَةِ، وَالأَمْرُ كَالْمُوجَبَةِ الْجُزئِيَّةِ.
وَعنِ الثَّانِي: أَنَّ الاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَصَحَّ دُخُولُهُ تَحْتَ اللَّفْظِ، لَا مَا يَجِبُ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا ذلِكَ؛ لَكِنْ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَال: حُصُولُ هذِهِ الاسْتِثنَاءَاتِ، صَارَ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى مَعْنَى التَّكرَارِ؟ !
===
"الثالث أَنَّ حملَه على التكرار أحوطُ"- وَاضِحُ المراد.
وقوله: "والجواب عن الأول مِن وجوهٍ: الأول: أنَّ النهيَ يُوجِب الانْتِهاء المستمر بخلاف الأمر".
ويرد عليه: أنَّه يجب أَنْ يثبت بحسب الإِمْكَان؛ كما لو قيده بالتكرار لَفْظًا.
قوله: "الثاني: أن النهي مَنْعٌ من تكوين الماهية ... " إلى آخره؛ يعني: أَنَّ النهي المطلق لا يتصور امتثاله إلا بالامْتناع عن كُلِّ أشخاصه، والأمرُ يقتضي مُطْلَقَ الوجود، وأنه يتحقق بالمرة.
قوله: "الثالث: أن الأمر والنهي يجريان مجرى الإِيجاب والسَّلْب" يعني: والنهي قد عم بالاتِّفاقِ من الخَصْم، والأمر يقابله.
فكما يكفي فِي رفع السالبة الكلية الموجبة الجُزئِيَّة- يكفي فِي رَفْعِ النهي العام الأمر الجزئي! فلا دَلَالة على التكرار تثبت. ومما احتجَّ به القائلون بالتَّكْرَارِ: أنَّه أتى بشاربِ خَمْرٍ إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمَرَ بضربه إِلَى أن كفهم عنه، ففهموا مِن أمره - صلى الله عليه وسلم - التكرار.
وأُجِيبَ عنه بأَنَّ فهم التكرار لم يَكُن مِن مُجَرَّدِ الأمر، وإنَّما فُهِمَ من قرينة الزَّجْرِ، وأَنَّ المرة لا تصلح للزجر غالبًا.