للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ الأَمْرَ الْمُقَيَّدَ بِالصِّفَةِ: يَرِدُ تَارَة مَعَ انْتِفَاءِ الْحُكمِ عَن غَيرِ الْمَذكُورِ؛ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، وَتَارَةً مَعَ ثُبُوتِهِ فِيهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء ٣١] مَعَ أَنَّهُ يَحْرُمُ قَتْلُهُمْ -أَيضًا- عِنْدَ عَدَمِ هَذِهِ الخَشيَةِ، وَقَال فِي قَتْلِ الصَّيدِ: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة ٩٥]، ثُمَّ أَجْمَعنَا عَلَى أَنَّ قَتلَهُ -خَطَأ- يُوجِبُ الْجَزَاءَ.

إِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَنَقُولُ: الاشتِرَاكُ وَالمَجَازُ، خِلَافُ الأَصْلِ؛ فَوَجَبَ جَعْلُ هَذِهِ الصِّيغَةِ حَقِيقَةً فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَينَ الصُّورَتَينِ، وَهُوَ ثُبُوتُ انحُكْمِ فِي المَذكُورِ، مَعَ قَطْعِ النَّظَر عَن ثُبُوتِهِ فِي غَيرِ الْمَذكُور، وَانْتِفَائِهِ عَنْهُ.

الثَّالِثُ: لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى انْتِفَاءِ الْحُكم عَن غَيرِ الْمَذكُورِ، فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَحْصُلُ فِيهِ هذَا الانْتِفَاءُ - يَلْزَمُ تَرْكُ العَمَلِ بالدَّلِيلِ. أَمَّا لَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الانْتِفَاءِ، فَفِي المَوضِعِ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ هَذَا الانْتِفَاءُ - يَكُونُ ذلِكَ إِثبَاتًا لأَمْرِ زَائِدٍ عَلَى مَفْهُومِ اللَّفْظِ؛ لَا تَعَلُّقَ لِذلِكَ اللَّفْظِ بِهِ: لَا نَفْيًا وَلَا إِثبَاتًا؛ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى.

وَأَمَّا أَنَّهُ يَدُلُّ عَلَيهِ فِي العُرْفِ - فَيَدُلُّ عَلَيهِ وَجْهَانِ:

الأَوَّلُ: أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا مَا قَال: "الإِنْسَانُ الطَّويلُ لَا يَطِيرُ، وَالْمَيِّتُ اليَهُودِيُّ لَا يُبْصِرُ" - ضَحِكَ مِنْهُ كُل أَحَدٍ، وَيَقُولُ: إِذَا كَانَ الإِنْسَانُ القَصِيرُ -أَيضًا- لَا يَطِيرُ، وَالمَيِّتُ المُسْلِمُ -

===

اشترِ لي ثوبًا قطنًا أو كتانًا، أو اشترِ لي عبدًا حبشيًّا، أو هنديًّا - لم يُرِدْ بالوصف سوى إخراج غيرِ الموصوفِ بالصفاتِ المُعَيَّنَةِ من مُطلَقِ إذنه فِي شراءِ المُسَمَّى من ذلك الجنس، وكُلُّ مَنْ توهَّم انتقاضَ حَدٍّ، فَأراد إخراجَ صورة النقض زاد وصفًا، والنقل على خلاف الأصل.

ولا يكفي فِي بيانِ انتفاءِ دَلالة الالتزام الانفكاكُ العقليُّ؛ فإنَّ الخصمَ لا يَدَّعِيهِ؛ وإنما يَدَّعي اللزومَ ظاهرًا.

وقد يُترَكُ الظاهرُ لدليل أرجحَ منه؛ وبهذا يُعْتَرَضُ على الوجه الثاني، وهو احتجاجُهُ بقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوَا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ} [الإسراء: ٣١]، وقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمُ مُتَعَمِّدًا} [المائدة: ٩٥].

فَإنَّا نقول: إِن هذا خرج مخرجَ الغالب، فظهرَ للتخصيص؛ فإنه سوى نفي الحكمِ، أمَّا إذا لم يظهر غيرُها كانت هي المُتَبَادِرَة إلى الفهمَ، وما ذَكَرَ من الوجه الثاني والثالث - واضِحُ المُرَادِ.

قوله: "وأما أنَّه يدل عليه فِي العُرْفِ فيدل عليه وجهان:

الأول: أَنَّ الرجل إذا قال: الإنسانُ الطويلُ لا يطيرُ، واليهودِيُّ المَيِّتُ لا يبصرُ - يضحكُ منهُ كُلُّ واحد، ويقول: والقصير كذلك، والميت المسلم كذلك".

<<  <  ج: ص:  >  >>