السُّؤَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّ لَفْظَ السَّبِيلِ لَفْظٌ مُفْرَدٌ غَيرُ مُحَلّى بِحَرْفِ التَّعْرِيفِ؛ فَلَا يُفِيدُ الْعُمُومَ، بَلْ يَكْفِي فِي الْعَمَلِ بِهِ تَنْزِيلُهُ عَلَى صُورَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَنَحْنُ نَحْمِلُهُ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي صَارُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الإِيمَانُ. فَلِمَ قُلْتُمْ: إِن مُتَابَعَتَهُمْ فِي سَائِرِ الأُمُورِ وَاجِبَةٌ؟ !
===
قلنا: الدليل على عُمُومه الرجوع إلى مَوَارِدِ الاسْتِعْمَالِ؛ لأنه لو قال: مَنْ دَخَل غير دَارِي، فله دِرْهَمٌ -عَمَّ الاسْتِحْقَاقُ كُلَّ دَاخِلٍ لكل دَارٍ لغيره، وهو الجواب عن قولهم: المُرَادُ به التَّارك لكل سبيل المؤمنين؛ لأن اسْتِحْقَاقَ الدِّرْهَمِ يَعُمُّ كل دَاخِلٍ بصفة الانْفِرَادِ والاجتماع.
قولهم: المُؤمِنُونَ هم المَوْجُودُونَ إلى يوم الدِّينِ:
قلنا: حَمْلُهُ على ذلك يُسْقِطُ فَائِدَتَهُ؛ فيتعين حَمْلُهُ على مؤمنين يُتَصَوَّرُ اتِّبَاعُهُمْ في دار التَّكْلِيفِ، ولا يُتَصَوَّرُ ذلك باتباع سبيل المَوْجُودِينَ في عَصْرِهِمْ، أو مَنْ تَقَدَّمَ اتفاقهم على عَصْرِهِمْ.
قولهم: إن هذا عَامٌّ مَخْصُوصٌ، والعَامُّ إذا خُصَّ صَارَ مُجْمَلًا:
قلنا: قد أوضحنا في "باب العُمُومِ" أنه متى خُصَّ بِمَعْلُوم، كان دَلِيلًا فيما بَقِيَ.
قولهم: استعمال سَبِيلِ المُؤمِنِينَ في طريقهم قَوْلًا وفِعْلًا يكون مَجَازًا:
قلنا: وإن كان مَجَازًا في الأَصْلِ، إلَّا أنه صَارَ هُوَ المُتَبَادَرَ إلى الفَهْمِ عند الإِطْلاقِ؛ كما في قَوْلِهِ تَعَالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف ١٠٨].
قولهم: إِن بين تَرْكِ اتِّبَاعِ غير سَبِيلِ المُؤمِنِينَ، واتِّبَاعِ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ- وَاسِطَةً؛ وهو عَدَمُ الاتباع لهما:
قلنا: قد بَيَّنَّا في "باب الأَوَامِرِ والنَّوَاهِي" أن الشَّيئَينِ إِذا كَانَا على طَرَفَي النَّقِيضِ؛ كالحركة والسكون، كان الأَمْرُ بأحَدِهِمَا نَهْيًا عن الآخَرِ، والنهي عن أَحَدِهِمَا أَمْرًا بالآخر؛ ضَرُورَةَ أنه يَلْزَمُ من طَلَبِ الشَّيءِ طَلَبُ ما هو من ضَرُورَاتِهِ.
وبينا أن الترك ليس محض السَّلْبِ بل فعل الضد؛ لأن السَّلْبَ المقابل الذي هو عَدَمٌ مَحْضٌ لا يكون مَعْدُومًا، فلا يكون مَكسُوبًا، وبَيَّنَّا انْحِصَارَ التَّكْلِيفِ في المَكْسُوبِ؛ بِنَاءً على امْتِنَاعِ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وعَدَمِ وُقُوعِه.
قولهم: اتباع سبيلهم: الحكم في المَسْألَةِ بالطَّرِيقِ التي حَكَمُوا بها لا بِمُجَرَّدِ اتفاقهم:
قلنا: إذا حَكَمْنَا في الوَاقِعَةِ لأَجْلِ أنهم حَكَمُوا بها، تَضَمَّنَ ذلك الحكم بما حَكَمُوا لأَجْلِهِ، وكما أن سَبِيلَهُمْ قبل الاتِّفَاقِ الحُكمُ بالدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ، فسبيلهم بَعْدَ الاتِّفَاقِ الحُكمُ به لأَجْلِ الاتفاق.
قولهم: المراد بـ"المُؤمِنِينَ" المَوْجُودُونَ حَال نُزُولِ الآية:
قلنا: "المُؤمِنُونَ" يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَنْ يُوصَفُ بالإِيمَانِ، وهم كل من يُوجَدُ في عَصْرٍ؛ ضرورة حَمْلِ الآية على مُؤمِنِينَ يُمْكِنُ اتباعهم، وإِلَّا لَكَانَ تَعْطِيلًا لِلآيَةِ.
وقولهم: "الإيمان فِعْلُ القَلْبِ، ولا اطِّلاعَ لَنَا عَلَيهِ":