للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ لِلْفُقَهَاءِ: الاسْتِدْلالُ بِقَوْلهِ تَعَالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: ١٤٣].

===

قلنا: الأَحْكَامُ التي بين العِبَادِ المُرَتَّبَةُ على الإيمان مُرَتَّبَةٌ على النُّطْقِ بكلمتي الشَّهَادَةِ من حِلِّ المُنَاكَحَةِ، وَأَكْلِ الذَّبِيحَةِ، والميراث، والصلاة وراءهم وعليهم إلى غير ذلك، بِخِلافِ الأَحْكَامِ المُتَعَلِّقَةِ بِالعَبْدِ ورَبِّهِ؛ فإنه يعلم السِّرَّ وأَخفَى.

قولهم: "هذه الاحتمَالاتُ جَائِزَةُ الإِرَادَةِ، وهي مَانِعَةٌ من الجَزمِ":

قلنا: لا نُنْكِرُ أن كُلَّ لفظ احتج به على صِحّةِ الإجْمَاعِ، لو جُرِّدَ النَّظَرُ إليه من حَيثُ هو، لَتَطَرَّقَ إليه وُجُوهٌ من الاحْتِمَالاتِ، لكن مُوَافَقَةَ كُلِّ لَفْظٍ احتج به لِمَجْمُوعِ الأَلْفَاظِ مع كَثرَتِهِا، وَتَضَافُرِهِا، وتَطَابُقِ ظَوَاهِرِهَا على ذلك- يَدْفَعُ إِرَادَةَ تلك الاحْتِمَالاتِ؛ فإذن كُلُّ نَصّ منها يَصِحُّ التَّمَسُّكُ به ابتداءً؛ لإشعَارِهِ بالمَطلُوبِ الظاهر، وَدَفْعِ إِرَادَةِ مَا عَدَاهُ بانضمامه إلى الجملة، وبهذا الطَّرِيقِ يُقْطَعُ بكثيرَ من الأَحْكَامِ من وُجُوبِ الصَّلاةِ، والزكاة، وَالحَجِّ، والجِهَادِ، وَشَرْعِ أَصْلِ البَيعِ والنِّكَاحِ والإِجارة وغَيرَ ذلك، وان كان كُلُّ لَفْظٍ وَرَدَ فيها، لو نَظَرْنَا إليه من حَيثُ هو- لكان للتَّأْويل فيه مجال، لكن بالنَّظَرِ إلى ما اقترن به من التَّكْرِيرَاتِ، والتأكيدات، وقَرَائِنِ الأَحْوَالِ؛ فلا يبقى للاحتمال فيه مَجَالٌ، والله أعلم.

قوله: "الحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيدًا} [البقرة ١٤٣] وَجْهُ الاسْتِدْلالِ به أنه تعالى وصفَ مَجْمُوعَ هذه الأُمَّةِ بكونهم وَسَطًا، و"الوَسَطُ": العَدْلُ، فالمَوْصُوفُ بالعَدَالةِ إما أن يَكُونَ كل واحد من آحَادِ الأُمَّةِ؛ وهو باطل قطعًا.

[يعني: لما عُلِمَ أن الوَاقِعَ خِلافهُ [أو مجموع الأمة؛ وذلك يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ هذه الأُمَّةِ مَوْصُوفِينَ بالعَدَالةِ] " يعني: إذا بَطَلَ أَن يَكُونَ المَوْصُوفُ بالعَدَالةِ كُلَّ وَاحِدٍ، تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ المَوْصُوفُ بها جَمِيعَ الأُمَّةِ، وهذا على زَعْمِهِ تَقْرِير للمقدمة الأُولَى.

وأما تَقرِيرُ الثَّانِيَةِ: وهي "الوسط": العَدْلُ؛ فقوله تعالى: {قَال أَوْسَطُهُمْ} [القلم: ٢٨] أي: أعدلهم، وقوله - عليه السلام -: "خَيرُ الأُمُور أوسطها".

وقول الشاعر [من الطويل]:

هُمُ وَسَطٌ يَرْضَى الأَنامُ بِحُكمِهِمْ ... إِذَا نَزَلَت إِحْدَى اللَّيَالِي بِمُعْظَمِ

ويقال: مِيزَانٌ وَسَطٌ؛ أي: لا مَيلَ فيه.

<<  <  ج: ص:  >  >>