بذلك الشَّيءِ، أو غيره: كان غَيرهُ، لَزِمَ التسلسل، وإن كان إِيَّاهُ، فلا يُتَصَوَّرُ أن يكون العِلْمُ الواحد ضَرُورِيًّا نظريًّا معًا.
واحتج له الغَزَّالِيُّ بما حاصله أن الضَّرُورِيِّ هو الذي يكفي في إِدْرَاكِ تَصَوُّرِ طَرَفَي القضية من غير وَاسِطَةٍ، والنظري عكسه، وإدْرَاكُ أنهم صَادِقُونَ لا يَكْفِي فيه تَصَوَّرُ مُجَرَّدِ الخَبَرِ، بل لا بد من النَّظَرِ في أَحْوالِ المُخْبِرِينَ بأنهم لا دَاعِيَ لهم إلى الكَذِبِ، وأحوال المخبر عنه، وهذه المُقَدِّمَاتُ نَظَرِيَّةٌ، والموقوف على النظَرِيِّ نَظَرِيٌّ، فنقول: هؤلاء لا دَاعِيَ لهم إلى الكَذِبِ، وكل من لا دَاعِيَ له إلى الكَذِبِ صَادِقٌ.
وأُجِيبَ عنه بأن مُجَرَّدَ نَظم الدَّلِيلِ لا يَمْتَنِعُ في غَيرِ ما ذكر من الضَّرُورِيَّاتِ، ولا ينكر أنه لا بد في حُصُولِهِ من تَأمُّل في حَال المُخْبِرِينَ والمخبر عنه، لكن ذلك ليس باسْتِدْلالٍ بِأَوْسْاطٍ ومقدمات، وإنما هو تَفَطنٌ لتحقق الأَسْبَاب العادية؛ فإن الضَّرُورِيَّ يَنْقَسِمُ إلى ما لا يَتَوَقَّفُ على سبب؛ كالأَوَّليَّاتِ، ومنها: ما يَتَوَقَّفُ على سبب؛ كالحِسِّيَات والتجريبيات وغيرها، فإن رُؤْيَةَ الهِلالِ الخفي لَا بُدَّ في العِلْمِ به من مَعْرِفَةِ الجِهَةِ؛ وتحديق البَصَرِ نحو المرئي وترديده في الجهة، وذلك لا يخرجه عن كونه ضَرُوريًّا، وكذلك العِلْم بِخَجَلِ الخجِلِ، وَوَجَلِ الوَجِلِ، وهذا مَنْشَأُ التَّرَدُّدِ في هذه المسألة، والله أعلم.
قوله:"البَحْثُ الرَّابعُ: المُخْتَارُ عندنا: أنه ليس لِلتَّوَاتُرِ عَدَدٌ يستدل به على حُصُولِ العِلْمِ، وإن كان عَدَدًا لفرض في القُوَّةِ والضَّعْفِ، بل متى علمنا حُصُولَ العِلْمِ به، عَلِمَنَا أن الأَحْوَال المُوجِبَةَ للعلم كَانَتْ حَاصِلَة على سبيل التَّمَامِ والكَمَالِ":
اختلف العُلَمَاء في أقل عَدَدِ التَّوَاتُرِ: فقيل: خمسة؛ لأن الأَرْبَعَةَ بَيِّنَةٌ تقبل التَّزْكِيَةَ.
قال القاضي: اعْلَمْ أَن قَوْل الأَرْبَعَةِ لا يفيد العِلْمَ أَصْلًا؛ إذ لو أَفَادَ، لَكَانَ قول كُلِّ أربعة صَادِقًا؛ لاسْتِوَاءِ حكم المِثْلَينِ، ولو كان كذلك، لَمَا وَجَبَ تزْكِيَةُ شهود الزِّنَا، وأتوقَّفُ في قول الخمسة.
وأورد عليه: أنه لا مَعْنَى لِتَوَقُّفِهِ في الخمسة؛ فإن ما قرره في أن الأَرْبَعَةَ لا تكون عَدَدَ التواتر- مُطَّرِدٌ فيها، فإن القاضي قد يَسْتَظْهِرُ بخامس وسادس، ويفتقر إلى التَّزْكِيَةِ، وإنما أبهم عليه؛ لأنه لا يشترط فيه القرائن، وإلا فقد يفيد مع الانْضِمَامِ.