الثالِثُ: سَلمنَا أَن بَعضَ الصحَابَةِ عَمِلَ بِخَبَرِ الوَاحِدِ؛ فَلِمَ قُلتُم: إِن البَاقِينَ سَكَتُوا؟ !
وَقَولُهُ: "لَو أَنكَرُوا لاشتَهَرَ، وَلَو اشتَهَرَ لَنُقِلَ، وَلَو نُقِلَ لَوَصَلَ إِلَينَا؛ لَكِنهُ لَم يَصِل إِلَينَا" قُلنَا: كُل وَاحِدَةٍ من هذِهِ المقَدمَاتِ الثلاثةِ مُقَدمَة ظَنية ظَنًّا ضَعِيفًا.
وَأَيضًا: قَولُهُ: لَوَصَلَ إِلَينَا، قُلنَا: إِن أُرِيدَ بِهِ أنهُ كَانَ يَجِبُ وُصُولُهُ إِلَى كُل وَاحِد مِنَّا - فَهذَا بَعِيدٌ؛ لأنهُ كَيفَ يُمكِنُ ادعَاءُ أَن كُل مَا ذَكَرَهُ الصحَابَةُ يَجِبُ أَنْ يَصِلَ إِلَى كُل وَاحِدٍ مِنَّا. وإن أُرِيدَ بِهِ أَنهُ كَانَ يَجِبُ وُصُولُهُ إِلَى وَاحِدِ مِن أَهلِ هذَا الزمَانِ- فَهذَا مُسَلَّمٌ؛ لَكِن المعلُومَ عِندِي حَالُ نفسِي، لَا حَالُ غَيرِي، فَكَيفَ يُعرَفُ أنهُ لَم يَصِل؟ !
الرابع: هَب أَنهُ عَمِلَ بِهِ البَعضُ وَسَكَتَ البَاقُونَ؛ فَلِمَ قُلتُم: إِن هذَا يُفِيدُ الإجمَاعَ؟ !
وَتَقرِيرُهُ: مَا ذَكَرنَاهُ فِي "بَابِ الإجمَاعِ": أَن هذَا النوعَ مِنَ الإِجمَاعِ ضَعِيف جِدًّا.
الخامِسُ: مَا ذَكَرنَاهُ فِي "بَابِ العُمُوم": أَن حِكَايَةَ الحالِ لَا عُمُومَ لَهَا؛ فَيَكفِي فِي الْعَمَلِ بِمُقتَضَى هذَا الدلِيلِ الذِي ذَكَرتم- إِثبَاتُ أَن نَوعًا مِن أَنواعِ خَبَرِ الوَاحِدِ حُجة، وَلَا يُفِيدُ العُمُومَ، ثُم إِن ذلِكَ النوع غَير مَعلُوم بِعَينِهِ، فَعَلَى هذَا: لَا نَوعَ مِن أَنوَاعِ خَبَرِ الوَاحِدِ إلا ويبقَى مَجهُولا فِي أَنهُ هَل هُوَ ذلِكَ النوْعُ الذِي أَجمَعُوا عَلَى قَبُولِهِ، أَو هوَ غَيرُهُ.
وَعَلَى هذَا التقدِيرِ: يَخرجُ الكُل عَن أن يَكُونَ حُجة.
السادِسُ: أَنكم تَتَوَسَّلُونَ بِهذَا البَيَانِ الذِي ذَكَرتم إلى أَنهُم أَجمَعُوا عَلَى أَن كل وَاحِدٍ
===
الثالث: منع سكوت البَاقِينِ، وقولهم: إنهم لو أنكروا لاشتهرَ، ولو اشتهر لَنُقِلَ، ولو نقل لَوَصَلَ إلينا، كل هذه المقدمَاتِ مَمنُوعَة.
وأيضًا قوله: "ولو وَصَل إلينا إن أَرَادَ به أنه كان يَجِبُ وُصُولُهُ إلى كل وَاحِد، فهذا بعيد؛ لأنه كيف يمكن ادعَاءُ أن كُل ما ذكره الصحَابَةُ -رضي الله عنهم- يجب أن يَصِلَ إِلى كُل وَاحِدٍ منا، وإن أَرَادَ أنه كان يَجِبُ وُصُولُهُ إلى وَاحِدٍ من أَهلِ البلاد، فهذا مُسَلم به، لكن المَعلُومَ لِي حَالُ نفسي، لا حَال غيري.
الرابع: هَبْ أنه عمل به البَعضُ، وسَكَتَ البَاقُونَ، منع إفادته الإجماع، وتقريره ما ذكرناه في "باب الإجماع".
الخامس: أن هذه حِكَايَةُ حَال، وقد ذكره في "باب العموم"، وهل يكفي العَمَلُ بمقتضى هذا الدليل في صدقها إذا قيل: كانوا يَفعَلونَ كذا المرة الواحدة؟ ، قيل: على العُمُومِ، بل يَدُل على أَن نَوعًا مِن أَنوَاعِ الخَبَرِ حُجة، لكنه مَجهُول لنا.
السادس: العمل بموجبه؛ فإنه إنما يَدُل عَلَى وُجُوب العَمَلِ بخبر وَاحِدٍ تَأكَّدَ بِالإجمَاعِ، فلم قلتم: إنه يَجِب العَمَلُ بِخَبَرِ العَدلِ مُطلَقا؟ .