وَالْمُعْتَمَدُ لَنَا فِي إِثبَاتِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ: قَوْلُهُ تَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإ فَتَبَيَّنُوا} [الحُجُرَات: ٦].
===
إلى غير دلك من تَفَاصِيلِ الأَحْكَامِ المَشرُوعِ أَصْلُهَا في الكتاب، المَأخُوذ جميع ذلك من بَيَانِهِ - عليه السلام - ودَعْوَى أن جَمِيعَ هذه التَّفَاصِيلِ ثَابِتَةٌ بالتَّوَاتُرِ لا سَبِيلَ إليها، وهذا هُوَ الجَوَابُ عن السُّؤَالِ الثَّالث؛ وهو أن القُرْآن وافٍ بِبَيَانِ جَمِيع الأَحْكَامِ.
قوله: "هذا الطَّرِيقُ يُوجبُ أن يكون كُلُّ ظَنٍّ حُجَّةَ" قلنا: الأَمْرُ كذلك في كُلِّ ظَنٍّ مُسْتَفَادٍ من أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، ما لم يَدُلَّ قَاطِعٌ على إلغائه أو يُعَارِضُهُ ما هو أَوْلَى منه.
قوله: "وكون ظَنّ من غَلَبَ على ظَنِّهِ أن خَبَرَ الوَاحِدِ ليس بِحُجَّةٍ- معتبرًا":
قلنا: إذا قَامَ قَاطِعٌ على نَقِيضِهِ، فلا يُتَصَوَّرُ معه اعْتِبَارُهُ.
وَوَجْهُ الاعْتِرَاضِ على هذه الحُجَّةِ [الخامسة]-وهي بالحقيقة شُبْهَةٌ- أن يقال: قولك: إن العَمَلَ به يُوجِبُ دَفْعَ ضَرَرٍ مَظنُونٍ، وما ذكرته يُنَاسِبُ دَفْعَ ذلك. والاحتراز عنه مطلقًا بتقدير خُلُوِّهِ عن المُعَارِضِ، أو المُسَاوي؟ : الأول ممنوع، والثاني مُسَلَّمُ؛ لكن لا نُسَلِّمُ خُلُوَّهُ عن المعارض الراجح.
وبيانه: أن في الاحْتَرازِ عنه الْتِزَامَ ضَرَرٍ مَقطُوع به ناجزًا، وهو إِتْعَابُ النَّفْسِ، وتَرْكُ مَلاذِّهَا، ومحتوياتها مع التَّصَرُّفِ في مِلْكِ الغَيرِ بغير تحَقُّقِ إِذنِهِ؛ فإن العَبْدَ ومَنَافِعَهُ مِلْكٌ لله تعالى.
قوله: "فَيَجِبُ الاحْتِرَازُ عنه" يقال له: ما تَعْنِي بالوُجُوبِ؟ تعني به: الوجوب الشَّرْعِيَّ أو العَقلِيَّ؟
فإن عَنَيتَ به الوُجُوبَ الشَّرْعِيَّ، فممنوع، ولا بد له من دَلِيلٍ. وبتقدير ثبوته تخرج الحُجَّة عن أن تَكُونَ عَقلِيَّةً.
وإن عَنَيتَ به الوُجُوبَ العَقْلِيَّ، فالوُجُوبُ العَقلِيُّ ما لا يَقبَلُ الانْتِفَاءَ بِحَالٍ، أو [هو] ما يَلْزَمُ من فَرْضِ انْتِفَائِهِ مُحَالٌ، وليس الأَمْرُ ها هنا كذلك.
قوله: "إن في تَرْكِ العَمَل بالرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ الخُرُوجَ عن النَّقِيضَينِ":
قلنا: لا نُسَلِّمُ، بل اللَّازِمُ خُرُوج المَذكُورِ عن الدلالة، وليس بِمُحَالٍ؛ كما لو تَسَاوَى فيه الاحْتِمَالانِ، ثم الدَّلِيلُ لا يلزم عَكسُهُ، ومع تقدير انْتِفَاءِ دلالته، فلا يَمتَنِعُ ثُبُوتُ الحُكم، ونَفْيُهُ بدليل آخر، والبقاء على البَرَاءَةِ الأَصْلِيَّةِ أو على ما كَانَ عليه عند عَدَمِ النَّاقِلِ والمغير، فلَم قلتم: إِن ذلك مُحَالٌ؟ وما ذكره الفَخرُ من الأَسْئِلَةِ، فأكثرها مُعَارَضَةٌ في أَصْلِ المسألة؛ لاختصاصها بهذا المَسْلَكِ، والله أعلم.
شُبهَةٌ ثانية لموجبي التَّعَبُّد بالآحَادِ عَقْلًا:
قالوا: تَبْليغُ الشَّرْعِ وَاجِبٌ، وإرسال العَدَدِ المتواتر إلى كل النواحي مُتَعَذِّرٌ؛ فيجب بَعْثُ الآحَادِ، وقبول أَخبَارِهِمْ.