للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

===

الأَسْقَعِ، وهو آخِرُ مَنْ مات من الصحابة -رضوَانُ الله عليهم أجْمَعِينَ- كانوا يُفْتُونَ وَيحْكُمُون بالتحْلِيلِ والتحْرِيمِ، والحَقنِ والإِهدارِ، والصِّحَّة والبُطْلانِ، وبالأمور الخطيرةِ والقَضَايا العظيمَةِ، وأقضيَتُهُمْ وفتاويهِمْ تزيدُ علَى منْصُوصَاتِ الكتاب والسُّنَّة زيادة خارجة عن الحد والحَصْرِ المعتادِ، ولا نَظُنُّ بهم الاحتكامَ والتَّشَهِّي في الدَّين؛ فإن مَنْصِبَهُمْ يَجِلُّ عن ذلك؛ فلا بُدَّ لهم مِنْ مُسْتَنَدٍ شَرْعيٍّ؛ وهو القياس، وطريقُ تعيُّنِهِ: أنهم إذا لم يحكُمُوا بالتشهِّي، فلا بُدَّ من موافقَةِ مقصودِ الشَّرْعِ، ومقصودُ الشرعِ، إذا لم يكُنْ منصوصًا علَيهِ -فلا يسلم ولا يُظَنُّ إلَّا بإيماءٍ أو استنباطٍ بملاءمة أو شَبَهٍ، أو دَوَرَانٍ، وما أشبه ذلك، وهذا عينُ القيَاسِ؛ إذ لَا مَعْنَى للقياسِ إلا التمسُّكُ بمعقولِ النَّصِّ أو الإِجماعِ.

هذا تَمَامُ تقريرِ هذا المَسْلَكِ شرعيًّا، فظاهرُ كلام الفَخرِ بشيرُ إلَى تقريره عَقلِيًّا، كالذي قبله، ويَردُ على ظاهر كلامِهِ استدرَاكٌ؛ وهو أنَّه ادَّعَى أَن إِثْبَاتَ ما لا نِهَايَةَ لَهُ بالمُتَنَاهِي محالٌ، وعَنَى بالْمُتَنَاهِي: نصوصَ الكتَابِ والسُّنَّةِ، وادَّعَى دفْعَ المحذورِ من ذلك بزيادةِ القياس، وزيادةُ واحِدٍ على المتناهِي لا تصيره غيرَ متناهٍ.

لا يقالُ: المرادُ بقولنا: "إِنَّ أحكامَ الكتَاب والسُّنَّة متناهيَةٌ"، أنَّ ما أشعَرَت به النُّصوصُ مِنَ الأحكام -وإن كانَت كثيرةً- يدخلُ تحت العَدِّ والحَصْر، والقياسُ -وإنْ كان واحِدًا بنوعه- لكنَّه يعُمُّ الأحْكَام التي لا نهايَةَ لها ويستَرْسِلُ عليها باعتبارِ أمْرٍ عَامٍّ يشتَرِكُ فيه الآحَادُ؛ فإِنَّ الشارع إذا قال: "حَرَّمْتُ الخَمْرَ"، فهذا حُكْمٌ خاصٌّ، فإِذا فهمنا أنه إنما حرَّمه؛ لكونِهِ مُسكِرًا -عَمَّ التحريمُ كلَّ مُسكِر؛ وكذلك إذا نَهَى عن بيع البُرِّ بالبُرِّ متفاضِلًا، وفَهِمْنا أنه إنما حرَّمه؛ لكونه مطعومًا- عَمَّ الحُكمُ كُلَّ مطعوم؛ ولهذا قيلَ: لَا مَعْنَى للقياسِ إلَّا تجريدُ المُعَيَّنِ عن التعيُّن وإضَافَةُ الحُكم إلى المُشْتَرَكِ؛ لأنَّا نَقُولُ: إذا فَسَّرْتم عدَمَ النهايةِ بهذا، فلا يتمُّ هذا المسْلَكُ ما لم تُثبِتُوا أنَّ عموماتِ الكتابِ والسُّنَّة لا تَفِي بمثْلِ هذا العموم؛ فإنَّ قوله - عليه السلام -: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"، و"لَا تَبِيعُوا الطعَامَ بِالطعَامِ"، وَقَوْلَهُ تَعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥]

<<  <  ج: ص:  >  >>