ومثالُ الثانِي: قولُ الراوي: جَاءَ أَعرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَضرِبُ وَجهَهُ، وَينْتِفُ شَعَرَهُ، وَيقُولُ: هَلَكتُ وَأَهْلَكت؛ وَاقَعْتُ أَهلِي في نَهَارِ رَمَضَانَ، فقال لَهُ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَعتِق رَقبَةً" فنقولُ: كَوْنُهُ أعرابيًّا لا أَثَرَ له في إيجابِ الكَفارة؛ فإنَّ النَّاسَ في الشرع سواءٌ، وكونهُ يضربُ وجْهَه وينتِفُ شَعَرَهُ، أو مواقعًا امرأتَهُ دون سريَّتِهِ، أو زَانِيًا - لا أَثَرَ له، وإنما الموجِبُ كونهُ مُفْسِدًا لصَوم مُحتَرَم في رمضان بالجِمَاعِ عند الشافعيِّ، ومالك وأبو حنيفةَ يحذِفَانِ خصوصَ الجِمَاعِ، ويعلِّقان الحُكمَ بعمومِ الإِفسَادِ والهَتكِ، ويوجِبَان الكَفارة بأكل والشُّرب.
والاتِّفَاق على أصلِ التنقِيح، وإنما الخلافُ في صحَّة الحَذفِ؛ فإنَّ طريقَ الحَذف قد يكونُ قَطعِيًّا بأن يكونَ المَحذُوفُ طَردًا مَحضًا لا عِبرَةَ به في الأحكام؛ لكونه عَرَبِيًّا أو عَجَمِيًّا، وقد يكون مظنونًا كَحَذفِ خصوصِ الجمَاعِ؛ فإن الشافعي يَرَى أن له حَظًّا من المناصَبَةِ في شَرعِ الكفَّارة؛ فإنها تتضمَّن معنى الزجرِ، ودَاعِي النكَاحِ قد لا يَنزَجِرُ عَنه عند هَيَجَانِ الشَّهوَةِ بمجرَّد التَّحريم، بل لا بُدَّ من وازع وصارِفٍ أقوى؛ ولذلك أناطَ الشَّرعُ بجنسِهِ الحَدَّ، ويكتَفَى في المَنع من الأكَل والشربِ بالتحريمِ وإيجابِ القضاءِ؛ لضعف الداعي؛ ولهذا المعنى أوجَبَ الشارعُ الحَدَّ في شُربِ يَسِيرِ الخمرِ، ولم يوجِبهُ في شُرب البَول؛ اكتفاء بالتحريمِ؛ لضعف الداعي، وقوَّةِ الصارِفِ الطبيعيِّ، وأبو حنيفةَ يَمنَعُ القياسَ في الكَفَّارات، وقدِ اعتَرَفَ بالاجتهادِ في تنقيح المناطِ، وهو لا يراه قِيَاسًا، وإنَّما يسمِّيه استدلالًا علَى مُرَادِ الشرعِ، واعترف به أَيضًا مَن ينفي الاجتهادَ في "تَخريجِ المناطِ"، وقال به كما قال بجواز الاجتهادِ في "تَحقيق المناط"؛ كتحقيق أن