للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنَ النَّاسِ مَن قَال: الدَّوَرَانُ لَا يُفِيدُ الْعِلِّيَّةَ؛ وَذلِكَ لأَن عِلْمَ الله مُتَعَلِّقٌ بِمَعلُومَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَالعِلمُ مَعَ الْمَعلُومِ: كُلُّ وَاحِدِ مِنهُمَا دَائِرٌ مَعَ الآخَرِ وُجُودًا وَعَدَمًا، مَعَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ كَوْنُ كُل وَاحِدٍ مِنهُمَا عِلَّةً لِلآخَرِ:

===

النَّبَّاش سارقٌ؛ ليندرج تحت عموم قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيدِيَهُمَا} [المائدة: ٣٨]، وطريقُ الحَذفِ تبيانُ أن المحذوفَ طَردٌ مَحضٌ بالنسبة إلى الأحكامِ، أو طرد بالنسبة إِلَى عَينِ الحُكم؛ كالذكورة والأُنُوثَة في باب العِتقِ، وإِن كان لهما أَثَرٌ في الولاياتِ والشهاداتِ وغَيرِ ذلك، أو ببيان استقلالِ الباقِي بدونه في صُورَةٍ، أو بلَفظٍ مِنَ الشارعِ يَدُلُّ عَلَى استقلالِ الباقِي، وهو الإِلغاءُ.

قوله: "الثالثُ: المناسبَةُ" وهو: ما رتبناه خامسًا، ويُلَقَّب بـ "تَخرِيج المَنَاطِ"، والتخريج معناهُ الاستنباطُ، والمَنَاطُ: متعلَّقُ الحُكمِ، وهذا المسلَكُ هو الأغلَبُ في المنَاظَرَات.

وصورَتُهُ: أَن يَحْكُمَ الشارع في صور بِحُكم، ولا يتعرَّضَ لبيانِ علَّةِ ذلك الحُكم؛ لا بصريح لفظٍ، ولا بتلويح؛ فيبحث المجتهدُ عن علَّةِ ذلك الحُكمِ، ويستخرجُ ما يصلُحُ مناطًا له، ويحتجُّ على عِلِّيَّته بالمُنَاسَبَةِ، والقرائن، وسَلامَتِهِ عن القوادِحِ، ويحقِّق استقلالهُ بِعدم ما سِوَاهُ بالسَّبر بألَّا يجدَ مِثلَهُ، ولا ما هو أولى منه.

مثالُهُ: أن يقولَ الشارعُ: حَرَّمْتُ الخَمْرَ، مقتصرًا على ذلك، فيبحثُ فيجد الإسكَارَ مُنَاسِبًا بتحريمها؛ صيانة للعقل الذي هو مَنَاطُ التكليفِ [و] مناط المصالِحِ الدنيويَّةَ والأُخرويَّة، فيقول: هو العلَّةُ.

ولا بُدَّ من تحقيقِ معنَى المُنَاسبَةِ، وهي في اللَّغَةِ: الموافَقَةُ؛ يقالُ: هذا الثَّوْبُ يُنَاسِبُ هذه العمَامَةَ؛ أي: يُوَافقُهَا.

وهو في الاصطلاح عبارةٌ عَن موافَقَة مخصوصةٍ وهي موافقة الوصف للحكم، فقيلَ في حَدّهِ: إنه عبارَةٌ عما يَلزَمُ مِنْ رَبطِ الحُكم به حُصُولُ حكمةٍ غالبًا باعتباره، والمَعْنيُّ بالحكمةِ: حصولُ منفعة أو تكميلُهَا، أو دَفعُ مَضَرَّةٍ، أو تَقلِيلُهَا، أو ما يَتَرَكب مِن ذلك.

وقال أبو زَيد الحَنَفِيُّ: وهو ما لو عُرِضَ على العُقُولِ السَّليمةِ والطبَاعِ المستقِيمَةِ، لَتَلَقَّتهُ بالقَبُولِ، وما ذكره ظاهرٌ بالنِّسبة إلى الناظِرِ، أَمَّا المناظِرُ إذا نوزع في أَن المذكور كذلك، فَقَدْ يضيقُ عليه المَجَالُ؛ فالأَوَّلُ أَولَى.

وقيل: هو ما يلائِمُ الحُكمَ بالنَّظَرِ إِلَى رعَايَةِ المَصَالِحِ، وهو رَاجِع إلى الأوَّل؛ فإنه إنما

<<  <  ج: ص:  >  >>