وقبل مناقشة رأي ابن الجوزي في هذه الجوانب بأنواعها الثلاثة، لابد من الإشارة إلى تأثر ابن الجوزي برأي أفلاطون في تقسيم هذه الجوانب إلى أنواعها الثلاثة بالمسميات نفسها الناطقة والشهوانية والغضبية. والاختلاف الذي يميز ابن الجوزي عن أفلاطون -رغم تأثره- هو أنه ربط هذه الأنواع عند شرحها بطبيعة النفس البشرية حسب التصور الإسلامي. ولمناقشة هذه القوى الثلاثة فقد قال ابن الجوزي في القوة الناطقة:"فينبغي لمن شرفه الله تعالى بحب العلم أن يعتني بتكميل النفس الناطقة التي فضله الله تعالى بها على سائر الحيوانات، وشارك بها الملائكة، فيجعلها هي المسلَّطة على القوتين الأخريين، أعني الشهوانية والغضبية، لتكون منزلتها في البدن بمنزلة الراكب للفرس، فإن الفارس ينبغي أن يكون هو المسلَّط على الفرس لاستعلائه، فيمضي بها أين يشاء ويقفها إذا شاء.
فكذلك ينبغي أن تكون القوة الناطقة هي المستعلية على باقي القوى تستعملها كما تحب وتكفُّها حين تحب، ومن كان كذلك استحقّ أن يسمى إنسانًا حقيقة، قال أفلاطون: الإِنسان بالحقيقة من كانت نفسه الناطقة أقوى الأنفس" (١).
يتضح لنا من رأي ابن الجوزي أن أعلى مراتب النفس البشرية هي القوة الناطقة، التي تتميز بالعقل والحكمة والتمييز بين الخير والشر، والضبط والتوجيه لدوافع الإنسان ورغباته، كما أنها تتميز بالقدرة على التعلم عن الملائكة والحيوانات. وهذه القوة المستعلية على شهواتها ورغباتها، استطاعت أن توجه سلوك الإِنسان إلى الخير والصلاح بسبب خوفها وخشيتها من الله تعالى، فاستحقت صفة الإنسانية التي تميزها عن
(١) مرجع سابق، ابن الجوزي، أبو الفرج، عبد الرحمن. اللطائف والطب الروحاني. (تحقيق) عطا، عبد القادر، أحمد، ص ١٣١.