للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَتَأَمَّلْ أَيْضًا مَا قَصَّهُ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ قِصَّةِ بَلْعَامٍ عَالِمِ بَنِي إسْرَائِيلَ حَيْثُ أَمِنَ الْمَكْرَ فَقَنِعَ بِالْفَانِي مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا عَنْ الْبَاقِي مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ فَأَطَاعَ هَوَاهُ، وَقِيلَ: مَا بُذِلَ لَهُ عَلَى أَنْ يَدْعُوَ عَلَى مُوسَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَى نَبِيِّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَدْلَعَ لِسَانَهُ عَلَى صَدْرِهِ وَصَارَ يَلْهَثُ كَالْكَلْبِ وَسَلَبَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ وَالْعِلْمَ وَالْمَعْرِفَةَ، وَكَذَلِكَ بَرْصِيصَا الْعَابِدُ مَاتَ بَعْدَ عِبَادَتِهِ الَّتِي لَا تُطَاقُ عَلَى الْكُفْرِ.

وَكَانَ ابْنُ السَّقَّاءِ بِبَغْدَادَ مِنْ مَشَاهِيرِهَا فَضْلًا وَذَكَاءً وَقَعَ لَهُ مَعَ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ فَدَعَا عَلَيْهِ فَانْتَقَلَ بِهِ الْحَالُ إلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة، فَهَوَى امْرَأَةً فَتَنَصَّرَ لِأَجْلِهَا ثُمَّ مَرِضَ فَأُلْقِيَ عَلَى الطَّرِيقِ يَسْأَلُ، فَمَرَّ بِهِ بَعْضُ مَنْ يَعْرِفُهُ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَحَكَى لَهُ فِتْنَتَهُ، وَأَنَّهُ تَنَصَّرَ وَالْآنَ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ حَرْفًا وَاحِدًا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَا يَمُرُّ بِخَاطِرِهِ، قَالَ ذَلِكَ الرَّائِي لَهُ: فَمَرَرْتُ عَلَيْهِ بَعْدَ قَلِيلٍ فَرَأَيْتُهُ مُحْتَضَرًا، وَوَجْهُهُ إلَى الشَّرْقِ فَصِرْت كُلَّمَا أَدَرْت وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ الْتَفَتَ لِلشَّرْقِ، وَلَا زَالَ كَذَلِكَ حَتَّى خَرَجَتْ رُوحُهُ.

وَكَانَ بِمِصْرَ مُؤَذِّنٌ عَلَيْهِ سِيمَا الصَّلَاحِ فَرَأَى نَصْرَانِيَّةً مِنْ الْمَنَارَةِ فَافْتُتِنَ بِهَا فَذَهَبَ إلَيْهَا فَامْتَنَعَتْ أَنْ تُجِيبَهُ لِرِيبَةٍ، فَقَالَ: النِّكَاحُ، فَقَالَتْ: أَنْتَ مُسْلِمٌ وَلَا يَرْضَى أَبِي، فَقَالَ إنَّهُ يَتَنَصَّرُ، فَقَالَتْ: الْآنَ يُجِيبُك، فَتَنَصَّرَ وَوَعَدُوهُ أَنْ يُدْخِلُوهُ عَلَيْهَا، فَفِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ رَقِيَ سَطْحًا لِحَاجَةٍ فَزَلَّتْ قَدَمُهُ، فَوَقَعَ مَيِّتًا؛ فَلَا هُوَ بِدِينِهِ وَلَا هُوَ بِهَا. فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَكْرِهِ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْهُ وَبِمُعَافَاتِهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَبِرِضَاهُ مِنْ سَخَطِهِ.

وَمِنْ ثَمَّ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إذَا كَانَتْ الْهِدَايَةُ مَصْرُوفَةً، وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى مَشِيئَتِهِ مَوْقُوفَةً، وَالْعَاقِبَةُ مُغَيَّبَةً، وَالْإِرَادَةُ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ وَلَا مُغَالَبَةٍ، فَلَا تُعْجَبْ بِإِيمَانِك، وَصَلَاتِك وَجَمِيعِ قُرَبِكَ فَإِنَّهَا مِنْ مَحْضِ فَضْلِ رَبِّك وُجُودِهِ فَرُبَّمَا سَلَبَهَا عَنْك فَوَقَعَتْ فِي هُوَّةِ النَّدَمِ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ النَّدَمُ. تَنْبِيهٌ: عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا أَطْبَقُوا عَلَيْهِ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ الْوَعِيدِ الشَّدِيدِ الَّذِي فِيهِ، بَلْ جَاءَ تَسْمِيَتُهُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَالْبَزَّارُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ مَا الْكَبَائِرُ؟ فَقَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالْإِيَاسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ، وَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ وَهَذَا أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ» . قِيلَ وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا، وَبِكَوْنِهِ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ صَرَّحَ ابْنُ مَسْعُودٍ كَمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَالطَّبَرَانِيُّ.

<<  <  ج: ص:  >  >>