[الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ تَرْكُ التَّوْبَةِ مِنْ الْكَبِيرَةِ]
(الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ وَالسِّتُّونَ بَعْدَ الْأَرْبَعِمِائَةِ: تَرْكُ التَّوْبَةِ مِنْ الْكَبِيرَةِ) . وَكَوْنُ هَذَا كَبِيرَةً ظَاهِرٌ وَإِنْ لَمْ أَرَ مَنْ عَدَّهُ، وَيُصَرِّحُ بِهِ مَا سَأَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْله تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: ٣١] أَشَارَتْ الْآيَةُ إلَى أَنَّ عَدَمَ التَّوْبَةِ خَسَارٌ أَيُّ خَسَارٍ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ التَّوْبَةُ مِنْ الْكَبِيرَةِ وَاجِبَةً عَيْنًا فَوْرًا بِنُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. قَالَ الْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ: وَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ، وَأَمَّا التَّوْبَةُ مِنْ الصَّغِيرَةِ فَوَاجِبَةٌ عَيْنًا فَوْرًا أَيْضًا كَمَا فِي الْكَبِيرَةِ، قَالَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ إمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَلَمْ يَحْكِ فِيهِ خِلَافًا إلَّا عَنْ الْجُبَّائِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ، وَالْمَنْقُولُ عَنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ مَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ بَلْ حَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْإِجْمَاعَ عَلَيْهِ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِ الْجُبَّائِيِّ عَلَى أَنَّهُ حَكَى عَنْهُ فِي الْجَوَاهِرِ أَنَّهُ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا مِنْ الصَّغَائِرِ إذَا دَاوَمَ.
وَبِمَا ذَكَرْته مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَعْتَدَّ بِخِلَافِهِ لِضَعْفِهِ بَلْ شُذُوذِهِ انْدَفَعَ قَوْلُ الْأَذْرَعِيِّ فِي دَعْوَى إجْمَاعِ الْأُمَّةِ فِي الصَّغَائِرِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ قَالُوا إنَّهَا تَقَعُ مَغْفُورَةً عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ. وَاخْتَلَفُوا فِي وُجُوبِ التَّوْبَةِ مِنْهَا انْتَهَى. وَكَوْنُ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ يُكَفِّرُهَا لَا يَمْنَعُ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ التَّوْبَةِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يَزِيدُ عَلَى السَّتْرِ، فَإِذَا سُتِرَتْ كَانَتْ فِي رَجَاءِ أَنْ يُمْحَى أَثَرُهَا وَهَذَا أَمْرٌ قَدْ يَقَعُ وَقَدْ لَا يَقَعُ إذْ لَا يَجِبُ عَلَى اللَّهِ شَيْءٌ فَوَجَبَتْ التَّوْبَةُ مِنْهَا لِتَزُولَ عَنْ فَاعِلِهَا وَصْمَةُ الْمُخَالَفَةِ وَالتَّعَدِّي الَّذِي ارْتَكَبَهُ وَبَارَزَ اللَّهَ تَعَالَى بِعِصْيَانِهِ لَهُ، وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْته مَعَ الْإِجْمَاعِ الْمَذْكُورِ يَنْدَفِعُ قَوْلُ السُّبْكِيّ.
أَمَّا الصَّغِيرَةُ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ لِأَنَّهَا تُكَفَّرُ بِالصَّلَاةِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ لَا تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا عَيْنًا، بَلْ إمَّا هِيَ أَوْ مُكَفِّرٌ آخَرُ أَوْ هِيَ لَا فَوْرًا حَتَّى يَمْضِيَ مَا يُكَفِّرُهَا أَوْ هِيَ فَوْرًا وَهُوَ مَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ اهـ مُلَخَّصًا: وَلِوُضُوحِ رَدِّهِ خَالَفَهُ وَلَدُهُ التَّاجُ فَقَالَ: تَجِبُ التَّوْبَةُ عَيْنًا فَوْرًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، نَعَمْ إنْ فُرِضَ عَدَمُ التَّوْبَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ ثُمَّ جَاءَ مُكَفِّرٌ كَفَّرَ الصَّغِيرَتَيْنِ الْمَعْصِيَةَ وَتَأْخِيرَ التَّوْبَةِ مِنْهَا. وَقَالَ الْإِمَامُ: التَّكْفِيرُ السَّتْرُ، فَمَعْنَى تَكْفِيرِ نَحْوِ الصَّلَاةِ سَتْرُهُ عُقُوبَةِ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ ثَوَابُهُ فَيَغْمُرُهُ وَيَغْلِبُهُ كَثْرَةٌ، أَمَّا إنَّهُ يُسْقِطُهُ أَصْلًا فَذَلِكَ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ أَيْضًا بَعْدَ تَقْرِيرِهِ عَدَمَ الْقَطْعِ بِقَبُولِ التَّوْبَةِ خِلَافًا لِلْخُصُومِ: فَإِنْ قِيلَ: إذَا لَمْ تَقْطَعُوا بِقَبُولِهَا وَأَنَّهَا لَا تُزِيلُ الْعِقَابَ فَعَلَامَ يَحْمِلُونَ قَوْلَ اللَّهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute