تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: ٣١] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ» . وَقَوْلُهُ: «الْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ كَفَّارَةُ سَنَتَيْنِ، وَصَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ كَفَّارَةُ سَنَةٍ. إنَّ اللَّهَ لَيُكَفِّرُ عَنْ الْمُؤْمِنِ خَطَايَاهُ كُلِّهَا بِحُمَّى لَيْلَةٍ» وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ؟ قُلْنَا: التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى حِيَالِهَا فَيَجِبُ أَدَاؤُهَا كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ، وَهِيَ فِي نَفْسِهَا طَاعَةٌ وُعِدَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا. وَأَمَّا زَوَالُ الْعِقَابِ فَهُوَ مُفَوَّضٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ سُبْحَانَهُ خَيْرُ مَأْمُولٍ وَأَكْرَمُ مَسْئُولٍ.
وَقَالَ الْمُعْتَزِلَةُ: الصَّغَائِرُ تَقَعُ مَغْفُورَةً عِنْدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَادَّعَوْا وُجُوبَ ذَلِكَ عَقْلًا، وَيَلْزَمُهُمْ أَنَّ تِلْكَ الْقُرُبَاتِ لَا تُكَفِّرُ شَيْئًا لِأَنَّ مُجَرَّدَ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مُكَفِّرٌ، فَمَا الْحَاجَةُ لِمُقَاسَاةِ تَعَبِ صَوْمِ نَحْوِ عَرَفَةَ وَلَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تُكَفِّرُ مَا فِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ إرْضَائِهِمْ، وَعَلَى أُصُولِنَا لَيْسَ فِي الذُّنُوبِ مَا يَقَعُ مُكَفِّرًا عَقْلًا، وَالشَّرْعُ وَرَدَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الْمُبْهَمَةِ وَالْعِلْمُ بِتَأْوِيلِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيُّ تِلْمِيذُهُ وَشَارِحُ إرْشَادِهِ: يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُكَفَّرَ الصَّغَائِرُ الَّتِي نُسِيَتْ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِحَقِّ الْغَيْرِ لِتَعَذُّرِ الِاعْتِذَارِ مِنْهَا وَقَدْ لَا يُمْكِنُهُ إظْهَارُهَا، وَمِنْ ذَلِكَ التَّقْصِيرُ فِي الطَّاعَاتِ إذْ لَا يَجْبُرُهُ إلَّا اللَّهُ وَلَا يُكَفِّرُهُ إلَّا اسْتِكْثَارُ النَّوَافِلِ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ، انْتَهَى.
قَالَ الزَّرْكَشِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ لُحِظَ فِيهِ مَدْلُولُهُ اللُّغَوِيُّ فَإِنَّ الْكُفْرَ لَا يَزِيدُ عَلَى السَّتْرِ، لَكِنَّا نَقُولُ إذَا سُتِرَتْ غُفِرَتْ وَإِجْمَاعُهُمْ عَلَى وُجُوبِ التَّوْبَةِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ، وَتَفْصِيلُ الْأَنْصَارِيِّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ بَلْ كُلُّ الصَّغَائِرِ يَمْحُوهَا اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ الَّذِي ذَكَرَهُ، نَعَمْ مَا فِيهَا مِنْ حَقِّ الْآدَمِيِّ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ إسْقَاطِهِ لَهُ إذَا أَمْكَنَ وَهَذَا يُعَضِّدُهُ دَلِيلٌ مُوجِبُ التَّخْصِيصِ. وَالْحَقُّ وُجُوبُ التَّوْبَةِ عَيْنًا مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ، نَعَمْ إنْ فُرِضَ عَدَمُ التَّوْبَةِ عَنْ الصَّغِيرَةِ ثُمَّ جَاءَتْ الْمُكَفِّرَاتُ كَفَّرَتْ الصَّغِيرَتَيْنِ تِلْكَ الصَّغِيرَةُ وَعَدَمُ التَّوْبَةِ مِنْهَا. انْتَهَى. وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ فِي فَتَاوِيهِ قَدْ يُكَفِّرُ نَحْوُ الصَّلَاةِ بَعْضَ الْكَبَائِرِ إذَا لَمْ يَجِدْ صَغِيرَةً.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا هَلْ قَبُولُ التَّوْبَةِ قَطْعِيٌّ أَوْ ظَنِّيٌّ؟ وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ قَبُولَ تَوْبَةِ الْكَافِرِ بِإِسْلَامِهِ قَطْعِيٌّ وَقَبُولَ تَوْبَةِ غَيْرِهِ إذَا وُجِدَتْ شُرُوطُهَا ظَنِّيٌّ خِلَافًا لِجَمْعٍ مِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَإِذَا أَسْلَمَ فَلَيْسَ إسْلَامُهُ تَوْبَةً مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute