فَهَاتَانِ، وَإِنْ كَانَتَا فِي الْيَهُودِ أَيْضًا لِكَتْمِهِمْ صِفَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرَهَا إلَّا أَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كَمَا تَقَرَّرَ: وَالْبَيِّنَاتِ: مَا أُنْزِلَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ مِنْ الْكُتُبِ وَالْوَحْيِ. وَالْهُدَى: الْأَدِلَّةُ النَّقْلِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ، وَمِنْ بَعْدِ: ظَرْفٌ لَيَكْتُمُونَ، لَا لَأَنْزَلْنَا لِفَسَادِ الْمَعْنَى.
قِيلَ: وَفِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ بَيَانُ أُصُولِ الدِّينِ بِالدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ لِمَنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا ثُمَّ تَرَكَهَا أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَقَدْ لَحِقَهُ هَذَا الْوَعِيدُ انْتَهَى؛ وَاللَّعْنَةُ لُغَةً الْإِبْعَادُ، وَشَرْعًا الْإِبْعَادُ مِنْ الرَّحْمَةِ، اللَّاعِنُونَ: دَوَابُّ الْأَرْضِ وَهَوَامُّهَا تَقُولُ: مُنِعْنَا الْقَطْرَ لِمَعَاصِي بَنِي آدَمَ، وَلِإِدْرَاكِهَا ذَلِكَ جُمِعَتْ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ جَمْعَ مَنْ يَعْقِلُ نَحْوُ {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: ٤] {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: ٣٣] {أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: ٤] كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الْجِنَّ، وَالْإِنْسَ الْمُؤْمِنِينَ كُلَّهُمْ، الْمَلَائِكَةَ وَالْأَنْبِيَاءَ وَالْأَوْلِيَاءَ، أَقْوَالٌ. وَصَوَّبَ الزَّجَّاجُ أَنَّهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
وَرُدَّ الْأَوَّلُ بِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى نَصٍّ وَلَمْ يُوجَدْ، وَرَدَّهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّهُ جَاءَ بِهِ خَبَرٌ فِي ابْنِ مَاجَهْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ اللَّاعِنُونَ بِدَوَابِّ الْأَرْضِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ جَمِيعُ عِبَادِ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكِتْمَانَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ فِيهِ اللَّعْنَ، وَالنَّبْذَ وَرَاءَ الظَّهْرِ كِنَايَةً عَنْ الْإِعْرَاضِ الشَّدِيدِ، وَالثَّمَنُ الْقَلِيلُ مَا كَانُوا يَأْخُذُونَهُ مِنْ سَفَلَتِهِمْ بِرِئَاسَتِهِمْ فِي الْعِلْمِ، {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: ١٨٧] مَعْنَاهُ قَبُحَ شِرَاؤُهُمْ وَخَسِرُوا فِيهِ.
وَجَاءَ فِي الْكَتْمِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي السُّنَّةِ. أَخْرَجَ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنَا مَاجَهْ وَحِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْحَاكِمُ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ لِابْنِ مَاجَهْ: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَحْفَظُ عِلْمًا فَيَكْتُمُهُ إلَّا أُتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وَأَبُو يَعْلَى بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ، وَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ مَا يَعْلَمُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ» . وَالطَّبَرَانِيُّ شَطْرُهُ الْأَوَّلُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ. قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ؛ وَخَبَرُ «مَنْ كَتَمَ عِلْمًا أَلْجَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute