للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» ؛ وَالْقِيَاسِ الْجَلِيِّ، إذًا لَوْ حَرُمَ الْجَمْعُ فِي الْأَخِيرَةِ لَمَا نَفَذَ، فَلَمَّا نَفَذَ إجْمَاعًا دَلَّ عَلَى حِلِّهِ. إذْ الْأَصْلُ فِي نُفُوذِ الْعُقُودِ أَنَّهُ يَقْتَضِي حِلَّهَا عَلَى أَنَّ فِيهِ حَدِيثًا صَحِيحًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُلَاعِنَ طَلَّقَ ثَلَاثًا ظَانًّا أَنَّهَا تَنْفُذُ وَلَمْ يَنْهَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْهَا.

إذْ لَوْ كَانَ جَمْعُ الثَّلَاثِ حَرَامًا لَكَانَ أَتَى بِحَرَامٍ فَكَانَ يَجِبُ نَهْيُهُ عَنْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إبَاحَتِهِ. وَلَا يُقَالُ إنَّمَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَغْوٌ لِمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَغْوًا إلَّا فِي الْوَاقِعِ، وَأَمَّا فِي ظَنِّهِ فَلَمْ يَكُنْ لَغْوًا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يُفِيدُهُ تَأْيِيدُ حُرْمَتِهَا فَأَوْقَعَ الثَّلَاثَ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَارَفَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ لَا يَحْرُمُ وَإِلَّا لَنَهَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ كَمَا تَقَرَّرَ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى تَأَكُّدِ الْعُهُودِ وَأَنَّ الْإِخْلَالَ بِالْوَفَاءِ بِهَا كَبِيرَةٌ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ» .

وَفِي الْحَدِيثِ: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» .

وَرَوَى الْبُخَارِيُّ: «يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْعَمَلَ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» .

وَرَوَى مُسْلِمٌ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» ، وَمَرَّتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْمَعْنَى.

تَنْبِيهٌ: عَدُّ هَذَا مِنْ الْكَبَائِرِ هُوَ مَا وَقَعَ فِي كَلَامِ غَيْرِ وَاحِدٍ، لَكِنْ مِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ بِمَا مَرَّ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَبَّرَ بِخُلْفِ الْوَعْدِ، فَالْعِبَارَتَانِ إمَّا مُتَّحِدَتَانِ أَوْ مُتَغَايِرَتَانِ وَعَلَى كُلٍّ فَقَدْ يُشْكِلُ عَدُّهُمْ مِنْ الْكَبَائِرِ بِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ مَنْدُوبٌ لَا وَاجِبٌ وَفِي الْعَهْدِ أَنَّهُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ أَوْ حَرَّمَهُ، وَمُخَالَفَةُ الْمَنْدُوبِ جَائِزَةٌ، وَالْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ تَارَةً تَكُونُ كَبِيرَةً وَتَارَةً تَكُونُ صَغِيرَةً، فَكَيْفَ يُطْلَقُ أَنَّ عَدَمَ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ كَبِيرَةٌ؟ فَإِنْ أُرِيدَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِمَا يَكُونُ الْإِخْلَالُ بِهِ كَبِيرَةً كَانَ عَدُّ هَذَا كَبِيرَةً مُسْتَقِلَّةً غَيْرَ سَائِغٍ. إذْ لَا وُجُودَ لَهُ إلَّا فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَيُجَابُ بِحَمْلِ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى تَغَايُرِهِمَا عَلَى الْمُلْتَزِمِ بِالنَّذْرِ وَنَحْوِهِ، وَكَوْنُ مَنْعِهِ كَبِيرَةً ظَاهِرٌ إذْ النَّذْرُ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ وَاجِبِ الشَّرْعِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>