قَوْله تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: ٩] . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْله تَعَالَى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: ٤] أَيْ الْجَزَاءِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» أَيْ كَمَا تَفْعَلُ يُفْعَلُ مَعَك، فَالْقِصَاصُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيك أُخِذَ مِنْ ذُرِّيَّتِك، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: ٩] فَإِنْ كَانَ لَك خَوْفٌ عَلَى صِغَارِك وَأَوْلَادِك الْمَحَاوِيجِ الْمَسَاكِينِ فَاتَّقِ اللَّهَ فِي أَعْمَالِك كُلِّهَا لَا سِيَّمَا فِي أَوْلَادِ غَيْرِك، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَحْفَظُك فِي ذُرِّيَّتِك وَيُيَسِّرُ لَهُمْ مِنْ الْحِفْظِ وَالْخَيْرِ وَالتَّوْفِيقِ بِبَرَكَةِ تَقْوَاك مَا تَقَرُّ بِهِ عَيْنُك بَعْدَ مَوْتِك وَيَنْشَرِحُ بِهِ صَدْرُك، وَأَمَّا إذَا لَمْ تَتَّقِ اللَّهَ فِي أَوْلَادِ النَّاسِ وَلَا فِي حُرُمِهِمْ، فَاعْلَمْ أَنَّك مُؤَاخَذٌ فِي ذَلِكَ بِنَفْسِك وَذُرِّيَّتِك وَأَنَّ مَا فَعَلْتَهُ كُلَّهُ يُفْعَلُ بِهِمْ.
فَإِنْ قُلْت: هُمْ لَمْ يَفْعَلُوا فَكَيْفَ عُوقِبُوا بِزَلَّاتِ آبَائِهِمْ وَانْتُقِمَ مِنْهُمْ بِمَعَاصِي أُصُولِهِمْ؟ قُلْت: لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأُولَئِكَ الْأُصُولِ وَنَاشِئُونَ عَنْهُمْ. {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا} [الأعراف: ٥٨]- {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: ٨٢] . قِيلَ كَانَ ذَلِكَ الصَّالِحُ هُوَ الْجَدُّ السَّابِعُ لِأُمٍّ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ نَجِدُ فِي فَرْعِ الْعُصَاةِ صَالِحًا وَبِالْعَكْسِ، أَلَا تَرَى ابْنَ نُوحٍ وَابْنَ آدَمَ الْقَاتِلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى آدَمَ وَنُوحٍ وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَسَلَّمَ.
قُلْت: هَذَا مَعَ قِلَّتِهِ لَأَمْرٌ بَاطِنٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يَكُنْ عَنْهُ مِنْهُ إلَّا الْإِعْلَامُ بِعَجْزِ الْخَلْقِ حَتَّى الْكُمَّلِ مِنْهُمْ عَنْ هِدَايَةِ أَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِمْ {إِنَّكَ لا تَهْدِي} [القصص: ٥٦] أَيْ لَا تُوصِلُ مَنْ أَحْبَبْتَ عَلَى أَنَّ الَّذِي أَفَادَتْهُ آيَةُ {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ} [النساء: ٩] إلَخْ أَنَّ بَعْضَ الْأُصُولِ رُبَّمَا عُوقِبَ بِهِ الْفُرُوعُ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بِفَرْضِ اسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ، إلَّا أَنَّ صَلَاحَ الْأُصُولِ رُبَّمَا انْتَفَعَ بِهِ الْفُرُوعُ فَلَيْسَ ذَلِكَ أَمْرًا كُلِّيًّا فِيهِمَا، وَرُبَّمَا كَانَ لِلْفَاسِقِ ظَاهِرًا أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ بَاطِنَةٌ يُثِيبُهُ اللَّهُ بِهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} [النساء: ٩] .
وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ أَيْضًا " كَتَبَتْ عَائِشَةُ إلَى مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ عَادَ حَامِدُهُ مِنْ النَّاسِ ذَامًّا " وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: احْذَرْ أَنْ تُبْغِضَك قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ. قَالَ الْفُضَيْلُ: هُوَ الْعَبْدُ يَخْلُو بِمَعَاصِي اللَّهِ فَيُلْقِي اللَّهُ بِغَضَبِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُ. وَلَمَّا ارْتَكَبَ الدَّيْنُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ وَحَصَلَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ غَمٌّ شَدِيدٌ قَالَ: إنِّي لَأَعْرِفُ سَبَبَ هَذَا الْغَمِّ أَصَبْتُ ذَنْبًا مِنْ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إنَّ الرَّجُلَ لَيُصِيبُ الذَّنْبَ فِي السِّرِّ فَيُصْبِحُ وَعَلَيْهِ مَذَلَّةٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: عَجِبْت مِنْ ذِي عَقْلٍ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ لَا تُشَمِّتْ بِي الْأَعْدَاءَ ثُمَّ هُوَ يُشَمِّتُ بِنَفْسِهِ كُلَّ عَدُوٍّ، قِيلَ لَهُ كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ يَعْصِي اللَّهَ فَيَشْمَتُ فِي الْقِيَامَةِ كُلُّ عَدُوٍّ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: أَوْحَى اللَّهُ إلَى نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ قُلْ لِقَوْمِك لَا يَدْخُلُوا مَدَاخِلَ أَعْدَائِي: وَلَا يَلْبَسُوا مَلَابِسَ أَعْدَائِي، وَلَا يَرْكَبُوا مَرَاكِبَ أَعْدَائِي، وَلَا يَطْعَمُوا مَطَاعِمَ أَعْدَائِي فَيَكُونُوا أَعْدَائِي كَمَا هُمْ أَعْدَائِي، وَقَالَ الْحَسَنُ: هَانُوا عَلَى اللَّهِ فَعَصَوْهُ وَلَوْ عَزُّوا عَلَيْهِ لَعَصَمَهُمْ. وَقَالَ: إنَّ الرَّجُلَ أَيْ الْكَامِلَ لَيُذْنِبُ الذَّنْبَ فَمَا يَنْسَاهُ وَلَا يَزَالُ مُتَخَوِّفًا مِنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ فِي أَصْلِ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ وَقَعَ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا فَطَارَ.
وَعَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: إنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَصَابَ ذَنْبًا فَحَزِنَ عَلَيْهِ فَجَعَلَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَقُولُ بِمَ أُرْضِي رَبِّي فَكُتِبَ صِدِّيقًا. وَعَنْ عَمَّارِ بْنِ دَادَا قَالَ: قَالَ لِي كَهْمَسٌ: يَا أَبَا سَلَمَةَ أَذْنَبْتُ ذَنْبًا فَأَنَا أَبْكِي عَلَيْهِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، قُلْت: مَا هُوَ؟ قَالَ: زَارَنِي أَخٌ لِي فَاشْتَرَيْت لَهُ سَمَكًا بِدَانِقٍ فَلَمَّا أَكَلَ قُمْت إلَى حَائِطِ جَارٍ لِي فَأَخَذْت مِنْهُ قِطْعَةَ طِينٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ فَأَنَا أَبْكِي عَلَى ذَلِكَ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى بَعْضِ عُمَّالِهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا مَكَّنَك اللَّهُ الْقُدْرَةَ مِنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ فَاذْكُرْ قُدْرَةَ اللَّهِ عَلَيْك، وَاعْلَمْ أَنَّك لَا تَفْعَلُ بِهِمْ أَمْرًا مِنْ الظُّلْمِ إلَّا كَانَ زَائِلًا عَنْهُمْ: أَيْ بِمَوْتِهِمْ بَاقِيًا عَلَيْك أَيْ عَارُهُ وَنَارُهُ فِي الْآخِرَةِ. وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute