للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِخِلَافِ الْأَوَّلِ، فَحُبُّ الشَّهَوَاتِ يُعَالَجُ بِالْقَنَاعَةِ بِالْيَسِيرِ وَبِالصَّبْرِ، وَيُعَالَجُ طُولُ الْأَمَلِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَالنَّظَرِ فِي مَوْتِ الْأَقْرَانِ وَطُولِ تَعَبِهِمْ فِي جَمْعِ الْمَالِ وَضَيَاعِهِ بَعْدَهُمْ فِي أَقْبَحِ الْمَعَاصِي وَأَقْرَبِ زَمَنٍ.

وَيُعَالَجُ الِالْتِفَاتُ إلَى الْوَلَدِ بِاسْتِحْضَارِ الْخَيْرِ السَّابِقِ: «إنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَ وَرَثَتَهُ فِي خَيْرٍ وَقَدِمَ عَلَى اللَّهِ بِشَرٍّ» وَبِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْوَلَدِ رِزْقًا لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَكَمْ مِمَّنْ لَمْ يُخَلِّفْ لَهُ أَبُوهُ فَلْسًا صَارَ غَنِيًّا وَمَنْ خَلَّفَ لَهُ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ صَارَ فَقِيرًا فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ، وَبِأَنْ يَتَأَمَّلَ فِي أَحْوَالِ الْبُخَلَاءِ وَأَنَّهُمْ عَلَى مُدْرَجَةِ الْمَقْتِ وَالْبُعْدِ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ وَلِذَلِكَ تَجِدُ النُّفُوسَ تَنْفِرُ عَنْهُمْ بِالطَّبْعِ وَتَسْتَقْبِحُهُمْ، حَتَّى إنَّ بَعْضَ الْبُخَلَاءِ يَسْتَقْبِحُ كَثِيرَ الْبُخْلِ مِنْ غَيْرِهِ وَيَسْتَثْقِلُ كُلَّ بَخِيلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيَغْفُلُ عَنْ أَنَّهُ مُسْتَثْقَلٌ وَمُسْتَقْذَرٌ فِي قُلُوبِ النَّاسِ كَمَا أَنَّ الْبُخَلَاءَ عِنْدَهُ كَذَلِكَ، وَيَتَأَمَّلُ فِي الْمَنَافِعِ الَّتِي يُقْصَدُ لَهَا الْمَالُ فَلَا يَحْفَظُ مِنْهُ إلَّا مَا يَحْتَاجُهُ وَمَا زَادَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَّخِرَ ثَوَابَهُ وَبِرَّهُ عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - بِإِخْرَاجِهِ فِي مَرْضَاتِهِ. وَمَنْ أَمْعَنَ تَأَمُّلَهُ فِي هَذِهِ الْأَدْوِيَةِ انْصَقَلَ فِكْرُهُ وَانْشَرَحَ قَلْبُهُ فَيُجَانِبُ الْبُخْلَ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ أَوْ بَعْضِهَا بِحَسَبِ كَمَالِ اسْتِعْدَادِهِ وَنَقْصِهِ، وَيَنْبَغِي لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُجِيبَ أَوَّلَ خَاطِرِ الْإِنْفَاقِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ رُبَّمَا زَيَّنَ لِلنَّفْسِ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَلِذَلِكَ خَطَرَ لِبَعْضِ الْأَكَابِرِ، - قِيلَ أَبُو بَكْرٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ -: التَّصَدُّقُ بِثَوْبِهِ وَهُوَ فِي الْخَلَاءِ فَخَرَجَ فَوْرًا وَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ رَجَعَ، فَلَمَّا خَرَجَ سُئِلَ فَقَالَ خَشِيت أَنَّ الشَّيْطَانَ يُثْنِي عِنَانَ عَزْمِي، وَلَا تَزُولُ صِفَةُ الْبُخْلِ إلَّا بِالْبَذْلِ تَكَلُّفًا كَمَا لَا يَزُولُ الْعِشْقُ إلَّا بِالسَّفَرِ عَنْ مَحَلِّ الْمَعْشُوقِ.

وَمِنْهَا: لِلْمَالِ فَوَائِدُ دِينِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - سَمَّاهُ خَيْرًا فِي قَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: ١٨٠] وَامْتَنَّ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَفِي حَدِيثٍ: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا» ، أَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الدِّينِيَّةُ فَمِنْ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَاتِ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا إلَّا بِهِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَبِهِ يُتَقَوَّى عَلَى الْعِبَادَاتِ كَالْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَنْكَحِ وَضَرُورَاتِ الْمَعِيشَةِ إذْ لَا يَتَفَرَّغُ لِلدِّينِ إلَّا مَنْ كُفِيَ ذَلِكَ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ لِلْعِبَادَةِ إلَّا بِهِ عِبَادَةٌ، بِخِلَافِ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ فَإِنَّهُ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا. وَمِنْ فَوَائِدِهِ الدِّينِيَّةِ مَا يَصْرِفُهُ مِنْ صَدَقَةٍ - وَفَضَائِلُهَا مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ أَلَّفْتُ فِيهَا كِتَابًا حَافِلًا -، أَوْ هَدَايَا وَضِيَافَاتٍ وَنَحْوِهِمَا لِلْأَغْنِيَاءِ - وَفِيهِمَا فَضَائِلُ مَعَ أَنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِمَا الْأَصْدِقَاءَ وَصِفَةَ السَّخَاءِ أَوْ -، وِقَايَةِ عِرْضٍ مِنْ نَحْوِ شَاعِرٍ أَوْ مَارِقٍ، وَفِي خَبَرٍ: «إنَّ مَا وُقِيَ بِهِ الْعِرْضُ صَدَقَةٌ» - أَوْ أُجْرَةِ مَنْ يَقُومُ بِأَشْغَالِك إذْ لَوْ بَاشَرْتهَا فَاتَتْ مَصَالِحُك الْأُخْرَوِيَّةُ، إذْ عَلَيْك مِنْ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>