للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَثِيرَةٌ، صَحِيحَةٌ لَا تُحْصَى وَسَيَأْتِي جُمْلَةٌ مِنْهَا فِي الظُّلْمِ، وَكُلُّهَا يَدْخُلُ الْمَكَّاسُونَ وَأَعْوَانُهُمْ فِي وَعِيدِهَا، وَمَا ذَكَرْته فِي كَاتِبِ الْمَكْسِ فِي التَّرْجَمَةِ هُوَ مَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ الْفَرْضَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يَحْضُرُ لِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَكْسِ بَلْ لِمُجَرَّدِ ضَبْطِ مَا يُؤْخَذُ وَيُعْطَى فَحَسْبُ، وَلَوْ جَعَلَ لَهُ السُّلْطَانُ شَيْئًا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْحُضُورِ فَحَضَرَ بِقَصْدِ الضَّبْطِ جَازَ، ثُمَّ رَأَيْت كَلَامَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ. وَفِيهِ التَّصْرِيحُ بِجَوَازِ أَخْذِ الْأُجْرَةِ بِنِيَّةِ رَدِّهَا وَذَلِكَ لِأَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَكْسِ وَأَخْذِ الظَّلَمَةِ الْأَمْوَالَ، فَقَالَ إنْ قَصَدَ الشَّاهِدُ بِذَلِكَ حِفْظَ الْمَالِ عَلَى أَرْبَابِهِ، وَالشَّهَادَةَ لَهُمْ لِيَرْجِعُوا بِهِ فِي وَقْتٍ آخَرَ عِنْدَ إمْكَانِهِ بِرُجُوعِ السُّلْطَانِ إلَى الْعَدْلِ أَوْ تَوْلِيَةِ عَدْلٍ جَازَ، وَإِنْ قَصَدُوا إعَانَةَ الظَّلَمَةِ لَمْ يَجُزْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَأْخُذُوا الْأُجْرَةَ بِنِيَّةِ رَدِّهَا عَلَى أَرْبَابِهَا إلَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَقْتَدِي بِهِمْ النَّاسُ لِأَنَّهُمْ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ.

وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْضَ فَسَقَةِ التُّجَّارِ يَظُنُّ أَنَّ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَكْسِ يُحْسَبُ عَنْهُ إذَا نَوَى بِهِ الزَّكَاةَ وَهَذَا ظَنٌّ بَاطِلٌ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يُنَصِّبْ الْمَكَّاسِينَ لِقَبْضِ الزَّكَاةِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا نَصَّبَهُمْ لِأَخْذِ عُشُورِ أَيِّ مَالٍ وَجَدُوهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةٌ أَوْ لَا، وَزَعَمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِأَخْذِ ذَلِكَ لِيَصْرِفَهُ عَلَى الْجُنْدِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ لَا يُفِيدُ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. لِأَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ سَائِغٌ بِشَرْطِهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي بَيْتِ الْمَالِ شَيْءٌ. وَاضْطُرَّ الْإِمَامُ إلَى الْأَخْذِ مِنْ مَالِ الْأَغْنِيَاءِ لَكَانَ أَخْذُهُ غَيْرَ مُسْقِطٍ لِلزَّكَاةِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِاسْمِهَا. وَذَكَرَ لِي بَعْضُ التُّجَّارِ أَنَّهُ إذَا أَعْطَى الْمَكَّاسَ نَوَى بِهِ أَنَّهُ مِنْ الزَّكَاةِ فَيَكُونُ الْمَكَّاسُ قَدْ مَلَكَهُ زَكَاةً، وَأَنَّهُ ضَيَّعَهُ هُوَ بِإِعْطَائِهِ لِلْغَيْرِ وَهَذَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا لِأَنَّ الْمَكَسَةَ وَأَعْوَانَهُمْ عَزَّ أَنْ تَجِدَ فِيهِمْ مُسْتَحِقًّا لِلزَّكَاةِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّهُمْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى صَنْعَةٍ وَكَسْبٍ، وَلَهُمْ قُوَّةٌ وَتَجَبُّرٌ لَوْ صَرَفُوهُ فِي تَحْصِيلِ مُؤْنَتِهِمْ مِنْ كَسْبٍ حَلَالٍ لَاسْتَغْنَوْا بِهِ عَنْ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ الْقَبِيحَةِ.

وَمَنْ هَذِهِ حَالَتُهُ كَيْفَ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ، لَكِنَّ مَحَبَّةَ التُّجَّارِ لِأَمْوَالِهِمْ أَعْمَتْهُمْ عَنْ أَنْ يُبْصِرُوا الْحَقَّ وَأَصَمَّتْهُمْ عَنْ أَنْ يَسْمَعُوا مَا يَنْفَعُهُمْ فِي دِينِهِمْ اتِّبَاعًا لِلشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلِهِ لَهُمْ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَأْخُوذٌ مِنْهُمْ قَهْرًا وَظُلْمًا، فَكَيْفَ مَعَ ذَلِكَ يُخْرِجُونَ الزَّكَاةَ، وَمَا دَرَوْا أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الزَّكَاةَ فَلَا يَبْرَءُونَ مِنْهَا إلَّا بِدَفْعِهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ جَائِزٍ، وَأَمَّا مَا ظُلِمُوا بِهِ فَكَيْفَ يُكْتَبُ لَهُمْ بِهِ حَسَنَاتٌ وَيُرْفَعُ لَهُمْ بِهِ دَرَجَاتٌ، وَقَدْ جَعَلَ الْعُلَمَاءُ الْمَكَّاسِينَ مِنْ جُمْلَةِ اللُّصُوصِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بَلْ أَشَرُّ وَأَقْبَحُ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْك قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مَالًا فَنَوَيْت بِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>